شخصيات الأفلام الوثائقية... ضحايا أم جلادون؟

28 اغسطس 2017
من "طوفان في بلاد البعث" للسوري الراحل عمر أميرالاي
+ الخط -
إشكالية العلاقة بين السينمائيّ الوثائقيّ العربيّ وشخصيات أفلامه غير محسومة. فهي، بأسئلتها الأخلاقية والجمالية والثقافية والمعنوية، مفتوحة على نقاشٍ، يصعب أن يعثر على أجوبة نهائية، طالما أن المعنيين المباشرين بها (السينمائيّ الوثائقيّ، الشخصيات، المشاهدون، النقّاد) يمتلكون وجهات نظر متضاربة غالباً. والصعوبة ناتجةٌ من حساسية المسألة: أيجوز للسينمائيّ الوثائقيّ العربيّ أن يحتال على الشخصيات المختارة لأفلامه، كي يُحقِّق مبتغاه؛ والمبتغى ـ في بلادٍ عربية خاضعة لأنظمة قامعة ـ يتمثّل بتفكيك وقائع، والتنقيب عن حقائق، ومساءلة الاجتماع والثقافة والسياسة والأمن عن أحوال تلك البلاد وناسها، بوسائل يراها السينمائيّ فعّالة وقابلة لتحقيق المرجوّ؟ 

الاحتيال والمواربة والخديعة ركائز أساسية في صناعة هذا النوع السينمائيّ في العالم العربيّ ("العربيّ الجديد"، 21 أغسطس/ آب 2017)، مع أن البعض يعتبر أنها تحوِّل الشخصيات إلى "ضحايا" لسينمائيين وثائقيين، ويرى التعاطي السينمائيّ معها أشبه بالسخرية. ولعلّ أكثر السينمائيين الوثائقيين عرضة لسجالات كهذه يبقى السينمائيّ السوري الراحل عمر أميرالاي (1944 ـ 2011)، خصوصاً في فيلمه الأخير "طوفان في بلاد البعث" (2003)، الذي يُشكّل "نقداً ذاتياً" للمخرج، يتمثّل بقراءة أخرى لرؤيته الخاصّة بتجربة سدّ الفرات ("فيلم تجربة عن سدّ الفرات"، 1970)، في بدايات حكم البعث الأسديّ، مطلع سبعينيات القرن الـ 20. نقدٌ ذاتيٌّ يقوم به أميرالاي بعد 33 عاماً من المسارات والتبدّلات والتساؤلات والانكشافات، التي تُضيف على الوعي المعرفي والجمالي والثقافي مسائل عديدة، تساهم في مقاربات مختلفة للمواضيع نفسها، أحياناً.

يذهب بعض منتقدي عمر أميرالاي ومساجليه إلى تخيّل مشهدٍ، لن يتمكّن أحدٌ من تأكيده، مع أن كثيرين سيرون فيه عدم انسجام معه، ومع أسلوب اشتغاله، ونمط تفكيره. والمشهد المتخيّل هذا يرتكز على تمنٍّ مبطّن، يطالب ـ ضمناً ـ بـ "نسخة اعتذارية" من شخصيات "الطوفان"، لو أُتيح له فعل ذلك طبعاً، لأن هذا البعض يقول بشفقة عليها، وبأن هناك احتيالاً وخديعة في التعامل السينمائي الوثائقي معها.

بالإضافة إلى هذا، يُطرح سؤالٌ أساسيّ، حول مدى أحقّية المخرج الوثائقي في استخدام شخصيات أفلامه، أو في كيفية وضعها أمام كاميراه، أو في آلية التواصل معها. يتضمّن السؤال رفضاً لما يُرى بأنه أشبه بسخرية من تلك الشخصيات، أو تشويه لها، وإن يُمكن أن تكون الشخصيات تلك من أدوات النظام البعثيّ الأسديّ.

غير أنّ المُطالبة بنسخة اعتذارية من شخصيات فيلم "الطوفان" يعني، سينمائياً قبل أي شيء آخر، إلغاء الفيلم برمّته، وإلغاء المراجعة النقدية الذاتية برمّتها، وإلغاء معنى المواجهة التفكيكية لنظام قامعٍ ومانعٍ وقاتلٍ. هذه المُطالبة غير مُبرَّرة، وغير ضرورية، وغير سينمائيّة. الاحتيال والمواربة والخديعة ركائز أساسية في صناعة الوثائقيّ العربيّ (وربما كلّ وثائقيّ آخر أيضاً).
ركائز تحول دون "الإشفاق" على شخصياتٍ، خصوصاً تلك الراضية، أساساً، بموقعها ومكانتها في النظام البعثيّ الأسديّ، ومستفيدة من خضوعها له. شخصيات كهذه ليست ضحية النظام، ولا ضحية الفيلم، ولا ضحية أحد أو شيء، ولعلّها ليست ضحية نفسها أيضاً. فهي قابلة وخاضعة وموافقة على "الرخاء" الذي تمتلكه، بخضوعها للحكم البعثيّ الأسديّ؛ ومواجهتها السينمائية ـ بأسلوب عمر أميرالاي تحديداً ـ مدخلٌ إلى كشف شيء من آلية اشتغال هذا النظام، ومن العلاقة المتواطئة لبعض الناس به. وسواء امتلكت الشخصيات وعياً كافياً بما فعلته، في خضوعها للنظام البعثيّ الأسديّ أو في وقوفها أمام كاميرا عمر أميرالاي، أم لا؛ فهي تبقى إحدى الصور الأكثر حقيقية وواقعية عن طبيعة النظام، وعن مسؤولية كثيرين من الناس في استمرار قمعه وجنونه ودمويّته، وبعضهم واقفٌ أمام كاميرا أميرالاي بتلك الطريقة التي تفضح النظام وناسه.
"طوفان في بلاد البعث" خادع لشخصياته. هذه قناعةٌ لديّ، لأن الخداع ـ في بلاد البعث الأسديّ وأشباهه ـ أساسيٌّ في هذا الاشتغال السينمائيّ، وفي أمثاله قليلة العدد، التي ستكون أحد أبرز تجليات التمهيد الفرديّ لـ "الثورة اليتيمة" تلك.

أما مسائل السخرية والتشويه وما إلى هنالك، فهي منبثقة وناشئة من الشخصيات نفسها، الموافِقة والراضية والمستفيدة، والمقيمة في اكتفائها الذاتيّ بأن تكون أداة لنظام قامع، بدلاً من أن ترفض النظام قبل الثورة، كما فعل عديدون بأساليب مختلفة ومُكلِفة. لذا، تبدو "النسخة الاعتذارية" أشبه بمطلبٍ للسينمائيّ يقول بانقلابه على نفسه، وعلى كيفية اشتغاله، وعلى مشروعه البصري، وعلى وعيه وثقافته ومساراته. بهذا، سنجد كثيرين يُطالبون السينمائيين الوثائقيين بالاعتذار من شخصياتٍ، لبعضها أفعالٌ جُرمية بحقّ شعوب وبلاد وسياسات ومواقف، من أميركا إلى أوروبا وأفريقيا وآسيا. وهذا منافٍ للعمل الوثائقيّ السينمائيّ.

مرّة أخرى: هذا نقاشٌ مفتوحٌ وضروريٌّ.




دلالات
المساهمون