شهران على انتفاضة لبنان: قمع المحتجين يجمع أركان السلطة

17 ديسمبر 2019
استمرت الاحتجاجات رغم عنف أحزاب السلطة(حسين بيضون)
+ الخط -
بين 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي و17 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، شهران كاملان على انتفاضة لبنانية غير مسبوقة، نظراً لما أفرزته من تراكمات ومكاسب شعبية وتناقضات سياسية. الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت كحالة رافضة لفرض ضرائب إضافية على المواطنين، وتحديداً على استخدام تطبيقات الاتصال عبر الإنترنت، سرعان ما تحولت إلى انتفاضة شعبية، مفجرة في الوقت نفسه أزمة سياسية بين أركان السلطة، بدأت باستقالة حكومة سعد الحريري في 29 أكتوبر الماضي، ثم تأخير الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس حكومة مرات عدة، وصولاً إلى فشل الحريري بالذات في تأمين أكثرية نيابية كافية لإعادة تسميته مجدداً، أمس الاثنين، ليحدد يوم الخميس المقبل موعداً جديداً للاستشارات، من دون أن يكون واضحاً ما إذا كانت ستنتهي بإعادة تسمية الحريري، أو أن الاشتباك السياسي القائم ورفع الغطاء المسيحي عنه بعدم ترشيحه سيجبر الجميع على البحث عن مرشح آخر. 
ولم يكن الشهر الأول من الانتفاضة اللبنانية سهلاً، خصوصاً في سياق إعادة اكتشاف المواطنين ذاتهم، فكانت الاحتجاجات تأخذ منحىً تصاعدياً وتتنوع تباعاً بعدما أثبتت قدرة على التكيف مع التطورات السياسية والميدانية، فشملت قطع الطرقات، ثم دخول الإدارات الرسمية والاعتصام فيها، وتلتها تجمّعات واسعة في وسط بيروت وصيدا وطرابلس وبعلبك والذوق وجل الديب، ثم حراك الموظفين وطلاب المدارس والجامعات.
في الشهر الأول أيضاً، عمل أنصار حزب الله وحركة أمل على قمع المحتجين، خصوصاً في مناطق نفوذهم في صور والنبطية وبنت جبيل (جنوب لبنان) وبعلبك والهرمل (شرقاً)، قبل أن يمارس التيار الوطني الحرّ، الذي يترأسه وزير خارجية حكومة تصريف الأعمال، صهر رئيس الجمهورية جبران باسيل، الفعل نفسه، باعتداءات متلاحقة في منطقة المتن، شمال بيروت وعلى طريق القصر الجمهوري في بعبدا (شرق بيروت).
كذلك ارتفعت حدّة اعتداءات الأجهزة الأمنية، من قوى أمن داخلي ومكافحة الشغب والجيش اللبناني، على المتظاهرين، مع إغفالهم ممارسات أحزاب السلطة واعتداءاتها المتكررة على المواطنين، وخصوصاً في العاصمة بيروت وطرابلس (شمالاً).
لكن هذا القمع الميداني، الذي بدا أنه الأمر الوحيد المتفق عليه بين أركان السلطة، لم يؤدِّ إلى إحجام الناس عن المشاركة، فيما كان يمكن متابعة محاولات لتصفية الحسابات السياسية بين القوى الحزبية، إن من خلال السجالات التي بدأت تخرج على الإعلام، أو من خلال اتخاذ مشاركة أنصار بعض الأحزاب (تحديداً القوات اللبنانية) في الاحتجاجات ذريعةً للتحريض على الانتفاضة.

ظنّ البعض أنه في الشهر الثاني من الانتفاضة ستهدأ الأمور وستبحث السلطة عن حل وسط وتشكل حكومة اختصاصيين كما يطالب المحتجون، وخصوصاً مع تدهور الوضع المالي للبنان وللشعب، وسط ارتفاع غير مسبوق في الأسعار وتلاعب في أسعار السلة الغذائية وتراجع سعر صرف الليرة اللبنانية لدى الصرافين (وصلت إلى 2400 ليرة مقابل الدولار الواحد)، في ظل تقنين المصارف لسحوبات المواطنين، وتحديداً صغار المودعين.
لكن بدا أن المرحلة الثانية من محاولات كسر الانتفاضة وعض الأصابع بين القوى الساسية قد بدأت. برزت تهديدات متلاحقة من زعماء الأحزاب بحق المحتجين، بما في ذلك الادعاء أنهم "خونة وتحرّكهم سفارات أجنبية" وغيرها من التهم.
وفي وقتٍ اعتقد فيه البعض أن الاحتجاجات ستتوقف تحت وطأة التحريض المتزايد والاعتداءات، باشرت السلطة في تحريك ملف تشكيل الحكومة، لكن من دون تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة (تحدد الموعد لأول مرة في 9 ديسمبر/ كانون الأول الحالي)، في استمرار لبدعة "التأليف" قبل "التكليف" التي أرساها رئيس الجمهورية ميشال عون بتعمده عدم تحديد موعد للاستشارات فور تسلمه استقالة الحريري في 30 أكتوبر على قاعدة الاتفاق على اسم المرشح وشكل الحكومة. 
طرحت في البداية أسماء أكثر من مرشح لرئاسة حكومة جديدة، فكان اسم الوزير السابق محمد الصفدي أول المطروحين، لكنه سرعان ما سُحب من التداول، بعد اجتماعه مع وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال، جبران باسيل، ثم لقائه الحريري. علّل الصفدي انسحابه بتخلّف الحريري، المتهم بأنه لا يريد السماح لغيره بالوصول إلى رئاسة الوزراء، عن الإيفاء بوعودٍ قدّمها له. 


بعد سقوط اسم الصفدي، طُرحت شخصيات عدة، ومنها اسم السفير السابق نواف سلام، والوزير السابق بهيج طبارة، وبدرجة أقلّ النائب فؤاد مخزومي، لكنها لم تصمد كثيراً، على وقع اعتراض الشارع. دفع هذا الأمر إلى بروز اسم سمير الخطيب، وهو المدير العام ونائب الرئيس التنفيذي في شركة "خطيب وعلمي". قيل الكثير عن ترشيحه، وتحديداً دور المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم في تسويقه، ذلك لأن ابنة الخطيب متزوجة ابن إبراهيم. بقي اسم الخطيب طاغياً، لدرجة أنه اتُّفق على تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس حكومة في القصر الجمهوري في بعبدا من أجل تكليفه. غير أنه في الأيام الأخيرة، قبل التسمية الرسمية في 9 ديسمبر الحالي، بدا أن غطاء الحريري للخطيب قد تلاشى، فسعى إلى الانسحاب مع حفظ ماء الوجه عبر زيارته دار الفتوى في 8 ديسمبر، والخروج من هناك بإعلان أن "الطائفة السنية وهو (أي الخطيب) تريد الحريري رئيساً للحكومة".

انسحب الخطيب وعادت حظوظ الحريري لترتفع، فأعلن حينها التيار الوطني الحرّ، على لسان رئيسه جبران باسيل، عدم مشاركته في أي حكومة يرأسها الحريري، ولا حتى تسميته في أي استشارات نيابية، ولا سيما بعدما أصبح شبه محسوم أن أي حكومة مقبلة، سواء كانت بصيغة اختصاصيين فقط (الخيار الأقل ترجيحاً) أو حكومة اختصاصيين مطعمة بشخصيات حزبية (الاحتمال الأكثر ترجيحاً) ستكون خالية من مشاركة باسيل. إعلان دفع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، والأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، إلى مطالبة باسيل بالتراجع عن موقفه والقبول بالانخراط في الحكومة. بعدها سعى الحريري لكسب رضى أحزاب أخرى، تحديداً القوات اللبنانية (ترفض تسميته أو أي أحد آخر حتى اللحظة) والحزب التقدمي الاشتراكي (يرفض المشاركة في الحكومة الجديدة)، قبل أن يجد رئيس حكومة تصريف الأعمال نفسه مجرّداً من دعمٍ نيابي كافٍ لتسميته، إذ كانت التوقعات مساء الأحد تشير إلى أنه لم ينل 65 صوتاً (نصف عدد النواب + واحد)، فضلاً عن عدم وجود غطاء من الطائفة المسيحية له برفض ترشيحه، خصوصاً بعدما جدد التيار الوطني الحر أمس طلبه من الحريري تسمية شخص آخر غيره لرئاسة الحكومة. وفي ظل هذا الوضع طلب الحريري من رئيس الجمهورية ميشال عون، إرجاء الاستشارات النيابية التي كانت مقررة أمس الاثنين، على قاعدة رفضه أن "يكلف خارج الميثاقية" كما تداولت وسائل إعلام لبنانية، وهو ما فعله عون، عبر تأجيلها إلى يوم الخميس المقبل.
لكن تفصيلاً ميدانياً جديداً طرأ بدءاً من عشية السبت الماضي، فقد تكاتفت السلطات الأمنية مع عناصر تابعين لحركة أمل وحزب الله، بالاعتداء على المتظاهرين الذين احتشدوا في العاصمة أخيراً. ومع سقوط عشرات الجرحى في الليالي الثلاث الماضية، في أعنف المواجهات المسجّلة منذ بدء الانتفاضة، بدا واضحاً أن مسألة القمع تهدف إلى تكريس عاملين أساسيين: العامل الأول، فرض سطوة الأحزاب على المتظاهرين الذين يرفعون شعار "كلن يعني كلن" (جميعهم يعني جميعهم) ومنعهم من التجمّع في الساحات، رغم أنه في السابق تمّت دعوتهم إلى التجمّع فيها حصراً من دون قطع الطرقات. العامل الثاني، عبارة عن معركة "تجميع نقاط" بين الأحزاب السياسية عبر ممارستها العنف ضد المتظاهرين، تمهيداً لفرض رؤيتها السياسية.

مع ذلك، فإن ممارسات السلطة وأحزابها وأجهزتها الأمنية لم تمنع التدهور المستمرّ بالعملة اللبنانية، فضلاً عن غياب أي رؤية إنقاذية حقيقية. وهو مؤشر على تزخيم محتمل للتظاهرات والاحتجاجات في المرحلة المقبلة، ذلك لأن اجتماع مجموعة الدعم الدولية في فرنسا، في 11 ديسمبر الحالي، لم يفضِ إلى ضخّ الأموال في الخزينة اللبنانية، حسبما توقع البعض، بل اكتفى بالدعوة إلى "تبني سلة إصلاحات مستدامة وموثوق بها لمواجهة التحديات الطويلة الأمد في الاقتصاد اللبناني. هذه الإجراءات البالغة الأهمية تعكس تطلعات الشعب اللبناني منذ 17 أكتوبر". ومع مطالبة المجتمعين بتشكيل حكومة سريعاً وإقرار موازنة 2020 والإصلاحات الضرورية، إلا أنها أخرت تحويل أموال مؤتمر "سيدر" (المنعقد في إبريل/ نيسان 2018) إلى لبنان ستة أشهر على الأقلّ، ما يعني أن الانتفاضة التي دخلت شهرها الثالث لن تنتهي قريباً ما دامت الأسباب التي دفعت الناس للخروج إلى الشارع لم تعالج، بل ازدادت حدة.