صحيفة "التقرير" في ستراسبورغ... أول الطباعة، أول الرقابة

09 مايو 2016
كانت تصدر "التقرير" كل خميس وأغلقت نهائيا عام 1669(Getty)
+ الخط -
يسجل المؤرخون للصحافة أدوراً حاسمة في تاريخ أوروبا السياسي والثقافي وبالذات منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اختراع المذياع في عشرينيات القرن العشرين. غير أن المؤرخ التنويري الألماني لودفيغ شولتسر ومعاصريه لم يكونوا على دراية تاريخية موثقة بقصة الصحف، مهدها واسم مخترعها، بل إن الأمر تطلب عقوداً حتى أمكن تحقيق تقدم علمي إزاء هذه الأسئلة.

ففي عام 1876، وفي ظل سعار البحث التاريخي الذي أصاب بلدان أوروبا الغربية، عثر المؤرخ أوتو أوبل في مكتبة جامعة هايدلبرغ على مجلد يعود إلى عام 1609 ويحتوي أعداد سنة كاملة من صحيفة تحمل بالألمانية اسم "تقرير عن سائر الأخبار المهمة والمثيرة". يستهل العدد الأول من هذا المجلد بتحية من الناشر إلى القراء الكرام وتعهد منه بأن يواصل إصدار الصحيفة في العام الجديد، "كما كان الأمر في السنوات السابقة" وهو ما يشي بأن الصحيفة تعود إلى سنوات خلت قبل هذا التاريخ. كذلك يحمل هذا الاستهلال توقيع الناشر تحت اسم يوهان كارولوس من مدينة ستراسبوغ الواقعة اليوم شرق فرنسا وفيها مقر البرلمان الأوروبي.

قرن من الزمان كان يجب أن يمضي بعد ذلك كي يقدم المؤرخ الستراسبورغي، جان بيير كينتس، مخطوطا كاشفا للكثير من الأسرار، يحمل توقيع كارولوس كذلك، والذي يطلب فيه من السلطات في مدينة ستراسبورغ حماية صحيفته الحديثة العهد من إعادة الطبع، وهو يذكر أيضا أنه قد طبع من "منشوره الأسبوعي" 12 عدداً، بعد أن كان يصدره بخط اليد. مشكلة عدم وجود تاريخ على هذا المخطوط تم حلها قبل سنوات عبر أبحاث إضافية بينت أنه يعود إلى 21 كانون الأول/ ديسمبر من عام 1605، وهو ما يعني أن أول عدد من صحيفة دورية مطبوعة كان صدر في الأسبوع الثاني أو الثالث من أيلول/سبتمبر من نفس العام.

أما عن الناشر كارولوس فقد استطاع المؤرخون العثور على سيل من المعلومات عن سيرة حياته دون صعوبات حقيقية. فهو وُلد في مدينة مولباخ في الألزاس، لأب كاهن أرسله فيما بعد إلى مدرسة رفيعة المستوى يديرها رهبان. أبدى كارولوس نبوغا في المدرسة، وانتقل بعد ذلك إلى ستراسبورغ ليكمل تعليمه في كنف عمّه الذي كان شمّاسا لكنيسة فيها. بيد أن الفاقة المالية أجبرته على عدم إكمال دراسته الجامعية، وتعلّم صنعة الوِراقة. محترفو هذه المهنة كانوا يملكون في ستراسبورغ حقّ بيع الكتب، وليس نسخها ورزمها فحسب. يتزوج كارولوس فيما بعد بطباخة دير من ستراسبورغ مما يكسبه حقوق المواطنة الكاملة، بما في ذلك حق التملك وممارسة الأعمال الخاصة في المدينة التي اشتهرت آنذاك بليبراليتها وانفتاحها. ستراسبورغ كانت مركزا لإنتاج الكتب كذلك، وفيها طبع أول إنجيل باللغة الألمانية عام 1466.

ويبدو أن زوجة كارولوس لم تكن شريكة حياته فحسب، بل شريكة أعماله كذلك. لاحقا سيشتري الزوجان بيتا في ستراسبورغ. واللافت في الأمر أن كارولوس لم يوقع عقد البيع بصفته صانع كتب، بل "تاجر كتب" فحسب، ما يشير إلى تطور بدأ يطرأ على حياته المهنية.

بيد أن الحدث الأبرز هو مجازفة الزوجين باستثمار أكبر وأهم مطبعة في ستراسبوغ عام 1604 بعد موت صاحبها. ومقابل مبلغ مالي ضخم (3724 خولده) حصل كارولوس على ثلاث آلات طباعة و34 قنطارا من القوالب الرصاصية، بالإضافة إلى مخزون كبير من أوراق الطباعة ومستودع ممتلئ بالكتب غير المرزومة.

حالف الحظ كارولوس واستطاع أن يحقق أرباحا كبيرة من عمله في المطبعة وتسديد كل الديون المترتبة عن شرائها في فترة قياسية. غير أن طموحه المهني دفعه إلى البحث عن مصادر كسب جديدة، وحفّزه في نهاية الأمر إلى اختراع أول صحيفة. بدأ الأمر في مطلع عام 1604 بتزويد مجموعة من القراء المهتمين (مقابل اشتراك سنوي يبلغ 12 خولده) بصحيفة أسبوعية مخطوطة باليد تستورد نسختها الأصلية من مدينة أوغسبورغ. في نهاية صيف عام 1605 تخطر ببال هذا الورّاق فكرة جهنمية: ففضول المعرفة خصيصة البشر جميعا، وليس فقط المتعلمين والأثرياء منهم. ما من شك إذن بأن عدد المهتمين بأخبار العالم أكبر بكثير من مشتركي المخطوطة حتى الآن. لخدمة هذا الجمهور العريض كان لا بد من رفع الإنتاج وخفض السعر، وهو ما لم يكن واردا تقنيا إلّا بالتخلي عن استبدال الخطّ اليدوي بالطباعة.



حسم كارولوس أمره، وشرع بطبع نسخة تجريبية من صحيفته "التقرير" على مدى عام، والتي كانت تضم ما بين أربع إلى ست صفحات، حسب كمية الأخبار، بينما كانت صفحتها تُطوى مرتين، وليس مرة واحدة كما هو الحال في أغلب صحف اليوم. أما هيئة التحرير فكانت تقتصر عليه وحده في أغلب الأحيان، أما في غيابه فكان ينوب عنه مساعده شبانغنبرغ والذي ذاع صيت أشعاره وقصصه عن الحيوانات، ذات الشعبية الكبيرة آنذاك. وكان يعلو الصفحة الأولى من الصحيفة اعتذار من القراء على أخطاء طباعية وخلافها ترد بين الحين والآخر، يعزوها كارولوس إلى ضيق الوقت. فمخطوط الأخبار كان يصل من أوغسبورغ ومن كولونيا يوم الأربعاء لتصدر صحيفة "التقرير" يوم الخميس وتُرسل إلى المشتركين.

ثلاث سنوات مرت قبل أن يسجل أول مشكلة رقابية في الصحافة، عندما أوردت الصحيفة أخبارا عن مبعوث السلطان التركي إلى القيصر في براغ، تُستشف منها ضائقة مالية حلت بالقيصر وقيدت قدرته على أداء واجب الضيافة المرعي وقتها. انتفضت سلطات ستراسبورغ ضد كارولوس وحققت معه، كما أغلقت الصحيفة "إلى أجل غير مسمى"، دون أن تحظرها حظرا نهائيا. ويبدو أن اعتذار كارولوس أقنع سلطات المدينة التي سمحت بإعادة طباعة الصحيفة بعد خمسة أيام فقط على إغلاقها. واللافت أن الصحيفة لم تتعرض بعد هذا الحادث إلى أي رقابة من جهة السلطات التي اكتفت بانتزاع وعد من كارولوس بأن يراقب بنفسه مضمون صحيفته.



يبدو أن هذه السياسية نجحت في دفع كارولوس لممارسة رقابة ذاتية على صحيفته "التقرير". فبعد أيام وصلت أخبار من أوغسبورغ بأن تكاليف الضيافة والحماية التي قدمها القيصر للوفد التركي وصلت إلى 50 ألف تالر، بيد أن كارولوس، وربما بنية تكريس رضى السلطات عنه، بادر إلى إعادة صياغة الخبر في صحيفته هذه المرة، ورفع المبلغ إلى 80 ألف تالر.
مات كارولوس عام 1636 كرجل ثري، وأورث ابنه موريس أول صحيفة مطبوعة ودورية في العالم والتي لم يعد لها أثر اعتبارا من عام 1669.
المساهمون