ظاهرة المحللين الاستراتيجيين: النجومية بأي ثمن

30 مايو 2016
(Getty)
+ الخط -
"وطن النجوم أنا هنا... حدّق أتذكر من أنا؟". عندما كتب إيليا أبو ماضي هذا البيت لم يكن يستشرف واقعنا، الأرضي، الذي صار ينافس سماءنا الصافية في عدد النجوم، بعدما تحولت بلادنا إلى مرتع لكواكب من نوع آخر وأصبحت النجومية هي الحلم الأول للأجيال العربية ولم يعد يقبل أي فنان، أو حتى عامل في الشأن العام، بأقل من لقب نجم. وهذه الظاهرة تعتبر مرضية في المجتمعات المتقدمة والمنتجة، فما بالك بمجتمعاتنا التي لا تنتج سوى نجوم؟ من نجوم الغناء الى نجوم الدراما الى نجوم السياسة والمحللين الاستراتيجيين ونجوم الحوارات التلفزيونية... وليس انتهاءً بنجوم التحركات المطلبية الذين ينزلون الى الشوارع بكامل أناقتهم ويدورون حول الكاميرات التلفزيونية كالأقمار في حقول الكواكب. 

مطلع التسعينيات، بعدما حررت جيوش التحالف دولة الكويت وبعدما انعقد مؤتمر مدريد الذي بث الأمل في مشروع السلام بين العرب والاحتلال الإسرائيلي... تراجع الخطاب الثوري وانحصر باستثناءات قليلة وسادت أجواء من التفاؤل والأحلام بالازدهار، فكانت النتيجة أن أصبح لكل زاروب مطرب، أو مطربة، وفاضت الطرقات بملصقات للعيون الذابلة والصدور العارمة وصار كل مراهق مشروع نجم غنائي، بسبب غياب المعايير وسهولة "المهنة".

وللأسباب ذاتها، بعد الربيع العربي، أمسى لكل زاروب منظر سياسي وباحث استراتيجي... ففاضت الفضائيات باللغو، الى درجة صارت المأساة المتصاعدة تأخذ شكلا كوميديا وصار الإسفاف يصل، أحيانا، الى حدود التهريج ضمن كرنفال متواصل من "المنظّرين" و"المحللين" و"الخبراء الإستراتيجيين" و"أساتذة الجيوبوليتيك"... الذين ينشطون بين شاشات الفضائيات.



والمفارقة، أو المؤسف، ان الكثير من السياسيين يلعبون داخل هذا البازار متناسين أنهم مسؤولون ويفترض أنهم أصحاب قرار أو على الأقل أصحاب موقف. فلوهلة يظن المراقب أن كل الذين "يمتطون" الشاشات عندهم هدف واحد... ألا وهو الاستعراض.

لا شك أن حب الظهور هو أحد الميول التي تقوى أو تخفت، نسبياً عند الإنسان، حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية وطبيعة النشأة والمهنة... ولكن أن يصبح ظاهرة متفشية عند كل الطبقات والمشارب فهذا، على الأقل، حالة مرضية. وأن يصبح مفهوم النجاح مرتبطا، حصرياً، بالشهرة والاستعراض... فهذا يعني أننا أمام خلل في منظومة الترقي وإنتاجية المجتمع.

يكفي أن ننظر نظرة سريعة على كيفية تعاطي الفرد العربي مع مواقع التواصل الاجتماعي، ونقارنها بنظيره الأوروبي، لنرى الاختلاف الكبير بين العقليتين... ولنبدأ من عدد الأصدقاء الافتراضيين ثم الوقت الذي يصرف على تلك المواقع وطبيعة استخدامها ونوعية المنشورات فيها...

قد يكون مفهوماً من فنان أو مفكر أو صاحب ماركة تجارية أو مشروع سياسي... أن يسعى الى أكبر عدد ممكن من الجمهور عبر وسائل التواصل ولكن، ما حاجة ربة المنزل أو عامل البناء أو طالب الطب الى آلاف الأصدقاء الافتراضيين وعشرات المنشورات والصور العائلية، الخاصة جدا، والتي لن تهم سوى أصحابها أو الحلقة الضيقة المحيطة بهم. ما حاجة المواطن "العادي" الى نشر كل تحركاته الخاصة، يوميا، وبشكل مكثف؟ يعود ذلك ربما إلى تغيّر مفهوم العلاقات الاجتماعية وإلى الحاجة للإحساس الدائم بالنجاح و"الشعبية" حتى لو افتراضياً. في وقت يحافظ كثيرون من الأشخاص "غير النشيطين" على مواقع التواصل على استخدام الموقع بشكل "علمي" فلا يرفعون صورهم، ولا يكتبون منشورات، بل يطلعون على ما يكتبه آخرون.
المساهمون