عزمي بشارة: بما هي حرّيات

14 مارس 2016
(من المحاضرة)
+ الخط -
مثلت "الحرية" شعاراً رئيساً ضمن الشعارات التي رفعتها الحراكات الاجتماعية التي عرفتها البلاد العربية قبل عقود ضمن صراعات الأنظمة والمعارضات والمجتمع المدني، قبل أن يرتفع صوتها أكثر في مخاض "الربيع العربي".

البعد الاستعمالي/ الاستهلاكي لـ "الحرية" قد يحجب مستوياتها المتعددة وكذلك المغالطات التي يمكن أن تتضمنّها استخداماتها، وهو ما تصدّى لبحثه ومناقشته المفكر العربي عزمي بشارة في محاضرته التي ألقاها، أول من أمس الأحد، ضمن "المؤتمر الخامس للعلوم الإنسانية والاجتماعية" الذي ينظمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" واختتمت أعماله أمس.

قدّم المحاضرة المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني، وقد حاول وضعها في سياق أعمال بشارة المنشورة، مركّزاً على كون الأخير خاض غمار تجربة التأريخ للأفكار وهو ما يلاحظ افتقاده في العالم العربي، وفي هذا الإطار يمكن إدراج محاضرته هذه "الحرية في المجتمع بما هي حريات".

في كلمته، انطلق بشارة من استعارة أدبية متداولة تتعلق بالترميز للحرية بالطيور، ليبيّن أن الطيور لا يمكن أن تكون حرة على خلاف البشر، باعتبار أن "الحرية مُعرّفة بالعقل والإرادة مشروطة بهما، لذلك فلا حرية في الطبيعة ولا حرية للكائنات فوق الطبيعية"، هكذا يقول "الحرية صفة بشرية لا يمكنها أن تكون كلية لأنها قائمة على الإرادة والاختيار، وهي قائمة لدى كائن نهائي وعاقل ونسبي، ولا خيارات في الكمال" مضيفاً "الحرية كامنة في رأينا ليس في الكمال، بل في النقص وفي الوعي بهذا النقص وفي توفّر إرادة الاختيار لفعل شيء بهذا الخصوص".

يعرّج هنا صاحب كتاب "المجتمع المدني" على ظاهرة الهجرات البشرية الأخيرة، حيث يرى أن "دافع هذه المخاطرة ليس البحث عن الأمن والأمان فحسب، وإنما البحث عن الحرية بما في ذلك التحرّر من الخوف، وهو خوف لا يأتي فقط من خطر الموت الآني، بل أيضاً هو خوف مستمر من الحياة ذاتها، حيث خبِر هؤلاء حياة في ظل الخوف الدائم ولا يريدون ذلك لأبنائهم".

إلى جانب البعد الخارجي من فقدان الحرية (مثل الرّق والسجن)، يؤكد بشارة على مستوى آخر من فقدان الحرية (داخلياً)، "حيث يمكن أن يستعبد أو يتحرّر الإنسان داخلياً". يربط بعد ذلك بين المستويين فـ"الإنسان لا يولد حراً فكرياً وجسدياً وإرادياً، لكنه يولد حراً على مستوى الحرية الخارجية حيث إنه لا يولد عبداً، وهو ما ينفي طبيعية العبودية". ويضيف "غير أن الحرية لا تشترى جاهزة ولا تورّث، وليست مجرّد استعادة لحركة طبيعية من خلال عملية تذكّر أفلاطوني".

يرصد بشارة بعض آراء المدارس الفكرية حول مسألة الحرية وينقدها، ويصل بها إلى انعكاسها في التاريخ العربي من خلال تمثل جيل النهضويين لها، و"قد حاولوا زرع تصوّراتها الحديثة في التاريخ والفكر الإسلاميين بأثر رجعي"، لم يكن ذلك - بحسب بشارة - نتيجة سوء فهم للتاريخ كما فهم ذلك بعض نقادهم، بل كاستراتيجية للتعامل مع مجتمع تقليدي تسيطر عليه قوى محافظة عبر تأصيل مفاهيم حديثة وتبيئتها، لا سيما أنها متّهمة بكونها أفكاراً مستوردة.

يرصد بشارة وجهين لهذا التعامل مع الحرية؛ الأول هو تجاهل تاريخية هذه الأفكار من خلال تطبيقها جاهزة على تاريخ آخر، دون بحث صيرورتها في الغرب، ويعقّب بأن "هذا الأمر متكرّر عندنا". أما مستوى التعامل الثاني فهو محاولة جعل هذه الأفكار تتسق مع العقيدة الإسلامية أو تأويل العقيدة كي تتسع لهذه الأفكار.

يشير بشارة إلى أن "بعض النقاد المعاصرين ظلوا أسرى فهم للحرية لم يتجاوزوه إلى فهم حديث، والحقيقة أن الفهم الحديث لها لم ينشأ دفعة واحدة بل تطوّر تدريجياً". ويتابع: "يفترض بعض النقاد أن الفهم الإسلامي مقتصر على اعتبار الحرية عكس الرّق وهو تعريف نجده أيضاً لدى الإغريق والرومان أي الحضارات التي تنسب الحضارةُ الغربية إليها نفسها".

يعتبر صاحب "في الثورة والقابلية للثورة" أن ثمة بحثاً سطحياً عن الحرية في التراث الإسلامي من خلال البحث عن الكلمة، ليشير إلى أنه كان ينبغي الذهاب صوب "أخلاق الأسياد" (كما في تراث الأمم الأخرى) وهناك يمكن أن نجد غزارة في أوصاف قيم الحرية وخصالها، قبل الإسلام وبعده، من خلال التغنّي بخصال الإنسان الحر.

ينبّه بشارة إلى خطأ محاسبة حضارة قديمة بموجب مصطلحات ترتّبت عن تجارب استمرّت قروناً في حضارة أخرى. وهو يرى أن "التحدّي الحقيقي يكمن في قدرتنا على مغادرة النقاش حول الحرية والانطلاق إلى مسألة الحريات وشروط تحقيقها في واقع المجتمعات والدول العربية، وهذا الواقع ليس مجرّد امتداد للحضارة العربية الإسلامية ولا هو مجرّد امتداد لتاريخ أوروبا المعاصرة، ومحاسبة أي منهما على حدة لا يفيد كثيراً في شروط خوض الرهانات الأهم".

من هنا، يتجاوز بشارة التحليل الفلسفي للحرية في محاضرته ليقدّم قراءات حول تطوّرها التاريخي في سياق عربي. يرصد هذا التاريخ من خلال تطوّر الدولة في الفضاء العربي الإسلامي، والتي كان مجال سلطتها محدوداً، وكان نزاعها الرئيسي مع البداوة، وهذا استمر حتى الخلافة العثمانية. هذه البداوة أصبحت في ما بعد عاملاً تفتيتيّاً في الدولة الوطنية بعد أن تضمّنتها داخلها لتظل ثقافة القبيلة قائمة، مُعيقة نسج علاقات حقوق وواجبات بين المواطن والدولة.

يختم بشارة محاضرته بـ "طرح أسئلة عملية عامة"، إذ يشير إلى أن هذا هو ما يجب أن تطرحه الفلسفة في المجتمعات اليوم، إذ يقول "لا جدوى من البحث في الحرية وكأنها مفهوم، فلا وجود لمفهوم الحرية في العلوم الإنسانية والاجتماعية". يعتبر بشارة هنا أن "الحرية قيمة وليست مفهوماً مثلها مثل العدالة والصدق".

في الجزء الأخير من المحاضرة، طرح بشارة مجموعة من الأسئلة مقدّماً عناصر تقود للإجابة عنها، كان أولها "ما هو نوع الوعي اللازم لممارسة الحريات السياسية؟".

يرى صاحب "الدين والعلمانية" بضرورة الوعي بالمجال العمومي وبالحقوق والواجبات، وهذا غير ممكن من دون ممارسة حريات مثل حرية الرأي والاجتماع والاتحاد وحق الوصول إلى المعلومة، معتبراً أن "على المؤسسات المدنية تعويد المواطن على ممارسة الحريات وتحمّل مسؤوليتها. وما يُفترض بداية أن يُضمن هو قبول هذه المؤسسات بفكرة الحرية وضرورة احترامها وتوفير نخبة من الملتزمين بالمبادئ الديمقراطية، أي التزام النخب السياسية والمدنية بالحريات وقدرتها على التثقيف عليها".

يرى بشارة أنه "يصعب التكهّن بالتزام مجتمع بالحريات المدنية والسياسية قبل السماح لأفراده بالمشاركة في صنع القرار إذا لم يكن التزام النخبة بها راسخاً. وكل من وقف على عملية التغيير في البلاد العربية مؤخراً صُدم من اكتشاف خفة التزام النخب العربية بالحرية عملياً رغم تفضيلها المعلن نظرياً".

طرح بشارة سؤالاً في محاضرته، إذ يقول :"إذا وقعت مفاضلة بين الاستقرار وحفظ الحياة من جهة والحرية من جهة أخرى، فأيها نختار؟" سؤال راهن في ظل العنف السلطوي الذي يواجه به مطلب التغيير فيجري التخيير بين الاستبداد والفوضى.

يعتبر صاحب كتاب "سورية: درب الآلام نحو الحرية" أن هذا السؤال ليس سوى "سؤال وهمي" إذ تجري "مقابلة الحرية بقيم أخرى مثل الوطنية، ومن هنا تنتشر بعد ذلك مقولة المؤامرة، وصولاً إلى المفاضلة بين قيمة الحرية وقيمة الحياة"، وهو ما يعتبره ابتزازاً.

أما عن المسؤولية الملقاة على عاتق أي فاعل اجتماعي يسعى من أجل التغيير، فيرى أن من واجبه "التأكد من توفّر برنامج بديل للاستبداد ومن واقعية هذا البرنامج". يؤكّد بشارة أن "ممارسة الحرية قد تؤدّي إلى أخطاء وربما إلى كوارث، ولكن لتصحيح الأخطاء الناجمة عن استخدام الحرية سوف نحتاج إلى الحرية مثلما أنه لتصحيح أخطاء العقل نحتاج إلى عقل".

سؤال آخر يطرحه صاحب كتاب "الثورة التونسية المجيدة": "هل من علاقة بين الحريات الشخصية والحريات المدنية والسياسية؟ وهل تصح التضحية بالحريات المدنية بغرض الحفاظ على الحريات الشخصية؟".

يشير هنا إلى أن "قلقاً يعتري الإنسان المتحرّر من المجازفة في أن تؤدي ممارسة الخيارات السياسية إلى صعود قوى سياسية للحكم تقود إلى تقييد الحريات الشخصية"، ويعتبر أن "ثمة قوى تسعى للخلط بين المجال الخاص والعام من منطلقات دينية ما يتيح لها التدخّل في سلوك الناس اليومي، كما توجد أنظمة - "علمانية جداً" - تردّ على تدخل المواطن في المجال العمومي بالولوج إلى مجاله الخاص بالرقابة وجمع المعلومات عن مواقفه وخصوصياته".

هكذا يصل بشارة إلى القول بأنه "لا تصحّ المساومة بالتنازل عن الحريات السياسية والمدنية في مقابل حماية الحياة الشخصية، وأن النظام الذي يتدخّل في كل كبيرة وصغيرة لا يمكن أن يثبت على دعمه للحريات المدنية والسياسية".

هنا، يتطرّق إلى مسألة إتاحة أنظمة استبدادية وأخرى استعمارية للحريات الشخصية، مشيراً إلى أن من يستفيد من ذلك هي فئات مقتدرة من طبقات جديدة تتبنّى نمط حياة أكثر تحرّراً من العادات والتقاليد. هذه الأنظمة أمّنت الحريات الشخصية في ظل قمع للحريات المدنية والسياسية.

ختم بشارة محاضرته، بنقاش أسئلة أخرى مثل "ما العلاقة بين حرية الفرد وحرية الجماعة التي ينتمي إليها؟" و"لمن الأولوية للمساواة أم للحرية؟".



اقرأ أيضاً: الحرية والعدل.. أيهما أسبق؟

المساهمون