قانون "فاتكا" الأميركي يهدد السرية المصرفية في لبنان

01 يونيو 2014
المصرف التجاري السوري اللبناني في بيروت (أرشيف/Getty)
+ الخط -

 

أصبحت السرية المصرفية، التي لطالما تغنى بها لبنان، محطَّ أنظار أجهزة الرقابة العالمية، بعد زيادة التدقيق، خلال السنوات الماضية في العمليات المصرفية، لملاحقة التحويلات المرتبطة بتمويل الإرهاب وغسل الأموال والتهرب الضريبي.

التحديات الثلاثة هذه، لم تكن في منأى عن لبنان وعن اقتصاده، خاصة وأن القيّمين على إدارة السياسة النقدية واجهوا هذه التحديات بسلسلة من التشريعات للحفاظ على متانة القطاع المصرفي، لكن هذه التحديات جعلت من دعائم القطاع المصرفي اللبناني عرضة للاهتزاز، إذ غدت السرية المصرفية، التي بنى القطاع المصرفي المحلي إمبراطوريته على أساسها، محور تساؤلات دولية، خاصة وأن المصارف اللبنانية وبفضل هذه الميزة جذبت الكثير من الودائع، التي وصلت قيمتها اليوم إلى عتبة 140 مليار دولار.

استمرار تدفق الأموال الأجنبية إلى شرايين الاقتصاد اللبناني بات مقيدا، من جراء انتشار الجرائم المالية، والأسئلة التي تطرح نفسها اليوم: ما هو مصير القطاع المصرفي اللبناني؟ وهل يستطيع القطاع إكمال بناء امبراطوريته في ظل غياب جزئي او كلي للسرية المصرفية؟ وهل يمكن التوفيق ما بين التحديات، التي فرضتها الأموال العابرة للحدود، وبين ركيزة تعد أساس النظام المصرفي اللبناني؟ وفي أي نطاق مصرفي يمكن  رفع السرية؟

المصارف تؤكد السرية

المصارف اللبنانية، وحتى اللحظة، تؤكد التزام لبنان بالسرية المصرفية، فالحديث عن رفعها لم يرد في أروقة المصارف، والحديث عن تطبيق قانون الامتثال الضريبي،"فاتكا"، الذي يجيز رفع السرية جزئياً عن أموال المودعين الأميركيين في المصارف العالمية، لا يتعارض، وفق المصرفيين، مع السرية المصرفية التي ينتهجها لبنان.

ويؤكد مكتب حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، لـ"العربي الجديد" أن "المصرف المركزي يعمل على إيجاد صيغ توفّق ما بين أي قانون أجنبي، وخاصة قانون "فاتكا"، الذي سيبدأ تنفيذه مطلع تموز/يوليو 2014 من جهة، والسرية المصرفية من جهة أخرى، نافياً أن يكون هناك أي حديث عن رفع السرية المصرفية بالمطلق.

أما مدير الابحاث في بنك بيبلوس، نسيب غبريل، فيشدد وبعبارة صريحة على أن "السرية المصرفية، التي يتمتع بها النظام المصرفي اللبناني، ستبقى دون المساس بها".

وقال لـ"العربي الجديد": "أعتقد أن التجربة اللبنانية منذ 12 عاماً مع إقرار قانون مكافحة تبييض الأموال، أثبتت أنه لا يمكن رفع السرية إلا في حالات معينة حددها القانون، وعند إقرار قانون مكافحة تبييض الأموال، بدأ حينها الحديث عن رفع السرية المصرفية، لكن تبين، وبعد سنوات، أن السرية ما زالت معتمدة حتى اليوم".

ويضيف غبريل: "اليوم، ومع تطبيق قانون (فاتكا)، عاد الحديث من جديد عن رفع السرية المصرفية، لكن المصرف المركزي سيعمل على التوفيق ما بين تطبيق هذا القانون، وما بين الحفاظ على السرية المصرفية، ولا أعتقد أن هناك مجالاً لرفع السرية عن المودعيين في المصارف اللبنانية".

لبنان الأكثر تشدداً

وبدأ لبنان اعتماد السرية المصرفية، على نحو شبه مطلق، منذ عام 1956، واستطاع أثناء الحرب الأهلية (1975-1990) الإبقاء على السرية. كما أنه، وبعد الحرب الأهلية، أدخل نظامُ السرية المصرفية إلى القطاع المصرفي ودائع واستثمارات بمليارات الدولارات.

 لكن بعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة، ودخول السلطات الأميركية حلبة الصراع، والمطالبة بتطبيق قوانين تقيد السرية المصرفية، منها قانون الامتثال الضريبي (فاتكا ـ fatca) ، بدأ الحديث عن تراجع السرية في لبنان نظراً لعدم تمكن الأخير من رفض الضغوط الدولية.

وفي هذا الإطار يشرح الخبير المصرفي اللبناني، بول مرقص، كيف تمكن لبنان من زيادة حجم ودائعه في الماضي، وكيف سيواجه هذه التحديات في المستقبل.

ويقول  لـ"العربي الجديد" إن "نظام السرية المصرفية في لبنان هو الأكثر تشدداً مما هو عليه في بلدان عدة، نظراً للمنافع الاقتصادية والاجتماعية، حيث لعبت السرية المصرفية دوراً حاسماً في حماية القطاع المصرفي، وتالياً الاقتصاد الوطني، من الانهيار خلال حروب 1975-1990 التي ارتفع خلالها حجم الودائع المصرفيّة 392 مرّة".

ويضيف أن هذا النظام شبه المطلق في لبنان هو محل انتقادات دولية، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية، مما أجبر لبنان على التخلي، ولو جزئياً، عن هذه الميزة خصوصاً مع تدخل الولايات المتحدة وفرضها قانون الامتثال الضريبي، الذي أجبر المصارف اللبنانية على التنازل عن السرية المصرفية فيما يخص المواطنين الأميركيين.

ويرى مرقص أن "علامات استفهام عديدة تدور حول أحكام هذا القانون الجديد، الذي يخالف السرية المصرفية المعمول بها، لدرجة أن البعض اعتبر القانون الجديد تجنيداً للمؤسسات المالية من مختلف أنحاء العالم، لتكون أسلحة في أيدي السلطات الضريبية الأميركية".

 

تراجع الاستثمار

وحسب مرقص، فإن المخاوف من رفع السرية المصرفية وآثاره على حجم الودائع والاستثمارفي ضوء القانون الأميركي الجديد، والاعتبارات الاقتصادية العالمية الجديدة، ستترك دون شك آثاراً بالغة على القطاع المصرفي اللبناني.

وأضاف: "لا شك في أن حجم الاستثمارات سيقل، نظراً لتراجع ميزة السرية المصرفية التي يتمتع بها النظام المصرفي اللبناني، لكن في المقابل فإنه لا يمكن ترك المعايير الدولية والتمسك بالسرية المصرفية لجذب الاستثمارات ".

 ويوضح، في السياق ذاته، أن الدول العربية، ومن بينها الدّولة اللبنانيّة، تجد نفسها ملزمة بالامتثال لأحكام القوانين الدولية، ومنها قانون "فاتكا"، الذي يعتبر نموذجاً في رفع السرية المصرفية، لا سيما وأن العالم العربي يشهد تغيّرات وأزمات مالية لا يمكن للقطاع المصرفي والمالي تجاهلها والتي تتطلب من جميع المصارف والمؤسسات المالية التعامل معها بحذر وجدية تامة.

وأوضح مرقص أن "نظام السرية المصرفية اليوم لم يعد من المحظورات، التي لا يمكن التطرق اليها، كما كان في السابق، بل أصبح قابلاً للنقاش والتكيف وفق الظروف المستجدة، مما يعني أنه في المستقبل القريب ستفقد السرية المصرفية جوهرها الذي قامت عليه، وتصبح العمليات المالية مكشوفة أكثر".

 

سرية مقيدة

وتضع إجراءات عديدة السرية المصرفية أمام اختبار حقيقي، يتعلق بكيفية الحفاظ على سرية ودائع العميل وتطبيق القوانين الدولية مما يجعلها، بحسب الخبير الاقتصادي اللبناني، لويس حبيقة، "سرية مقيدة".

 ويرى حبيقة أن السرية المصرفية لا تزال قائمة، وإن كانت بنسب متفاوتة تبعاً للتحديات التي فرضت في الآونة الأخيرة. ولعل أبرز تحدٍّ قانون الامتثال الضريبي، الذي فرضته الولايات المتحدة على رعاياها من حاملي الجنسية او "جرين كارد" في دول العالم لتسديد الضرائب.

 وقال حبيقة لـ" العربي الجديد" إن هذا القانون يعد المفتاح الرئيسي للتنازل الجزئي عن السرية المصرفية، كونه يطال فئة معينة من المودعين، ويزيل شبح التخلي كلياً عن السرية المصرفية، كونه لا يطال كافة المودعين إلا في الحالات التي يحددها القانون.

 لكن الخطوة الأولى هذه لا تمنع من اتخاذ خطوات في المستقبل تتعلق بمودعين آخرين، كاتخاذ الدول الأوروبية أيضاً قرارات دولية تطالب برفع السرية عن مواطنيها. وفي هذه الحالة يتوجب على لبنان مراعاة هذه القوانين، وعدم الخوض في غمار نزاعات دولية، حسب حبيقة.

ويعتبر حبيقة أنه "أمام لبنان إما المضي في جذب الاستثمارات والأموال النظيفة إلى اقتصاده، والخضوع لرفع السرية المصرفية الجزئية، وإما الاعتماد على السرية المصرفية المطلقة وخوض المصارف اللبنانية معارك مع المؤسسات الدولية ووضعه على لائحة الدول غير المتعاونة وبالتالي فإن الخيار واضح بالنسبة إلى المصرفيين".

 

 

 

المساهمون