كاتبٌ معزول .. كتابةٌ موحشة

25 نوفمبر 2014
+ الخط -
لا أدري إذا كان البعض من المثقفين العرب، الذين كانوا يرون أن عزلةَ الكاتب أو الفنان، عن محيطه الاجتماعي ضربٌ من الجنون، ما زالوا عند رأيهم بعد كلّ التحولات العاصفة في المنطقة العربيّة، التي صار معها حالُ المحيط نفسه، بكلّ تشكّلاته، يشيرُ إلى الجنون نفسه. 
لقد كان بالإمكان من قبل، التساؤل حول إذا ما كانَتِ العزلة ستقود الأديب إلى الجنون، خاصّة أولئك الذين كانوا يقضون معظمَ أيامهم بعيدين من محيطهم الاجتماعي من أجل الكتابة؛ يغلقون أبواب بيوتهم وسماعات تلفوناتهم، إن كان لديهم تلفونات أصلًا، ولا يستجيبون لأي دعوة لمقابلة أو يرحبون بأي زيارة. أمّا الآن فلا جدوى من تساؤلٍ كهذا بعد أن صار الكاتب معزولًا من كلّ فعل في الواقع الاجتماعي، وإن بدا حاضرًا، معزولًا حتّى من حياته اليومية المعتادة، أو التي كان قد ألفَ العمل في ظلّ ظروفها؛ إذ لم تعد العزلة ممكنة التحقّق، بل وغير مطروحة حتّى كمطلب مرجو. فالأحوال العربية قضتْ على كلّ اطمئنان وسلام بين فئات وطبقات المجتمع. ولم يعد بإمكان الكاتب في هذه المنطقة من العالم أن يعيش عزلته الأدبية؛ فهو وإن بدا معزولًا عن الأحداث، أو غير مشارك فيها، من دون أن يكون ذلك بخيار منه، فإنّه مطالب بأن يقولَ رأيه عمّا يجري حوله، وإذا لم يقل هذا الرأي علنًا فإنّه سيتداخل مع هواجسه اليومية، في كلّ لحظة، وهو يعايش ويرى الأحوال المضطربة العنيفة.
مع هذا، حتّى في الأزمنة الأخرى شبه المستقرّة، لم يكن التساؤل حول إذا ما كانت العزلة قد تقود الكاتب للجنون، له دوافعه الفاحصة لحال هذه الفئة وعملها؛ إذ من الأرجح أن الصخبَ اليومي، وليس العزلة، هو من يقود الكاتب إلى الجنون. فالكاتب بهاجسه الإبداعي، كما يبدو لي، يعيش مستوحشًا من العالم المحيط به، ونادرًا ما نجد حال سلام ومصالحة بينهما. كما تبدو الكتابة مكابدة لوحشة، أو هي مرادفة لها، وهذا يعني أنها أيضًا مرادفة للحرّية، حرّية الكاتب اللاحدودية، وهو يجلس ليكتب منعزلًا ومنسلخًا من كلّ من حوله. وهو انسلاخ لا يعني ابتعاده عن الوجود وهروبه منه إلى عالم غير مرئي، بل يعني أن هذا الوجود قد صارَ، بفضلِ هذه العزلة، مرئيًا ومنظورًا من زاوية مختلفة، قد تسمّى أدبية أو مستوحشة أو قلقة. والكاتب بذلك يكون متوحّدًا ومحاورًا لهذا الوجود أكثر من توحّده معه وهو في حال استسلام لصخبه وضجيجه. ولهذا تكون العزلة مُنجَزة ومُنجِزة، إذ إن الكاتب قد لا يمكنه إنجاز عمله الأدبي المرجو قبل أن ينجزَ العزلة التي قد لا يستطيع أن يحقّق أي مطمحٍ له بدونها.
في كتب التراث العربي جاء قولٌ لحكيمٍ رأى فيه أن "العاقل مستوحشٌ من زمانه، منفردٌ عن إخوانه"؛ وهو قول لا يتفق مع الرأي الذي يتهم هؤلاء بالجنون، أو يعتقد أنهم مصابون بجنون العظمة، مع أن المبدعين كانوا أكثر من اتصف بالعظمة والعبقرية طوال التاريخ. وإذا كان للمبدعين أبراجهم الخاصة التي يطلّون منها على الواقع ويقرؤونه، فإن هذه الأبراج ليستْ بالضرورة متعالية عن الواقع، حتّى وإن كانت في قراءتها تنفرُ منه ولا تتصالح معه. كما أن عزلتهم، خصيصًا في العالم العربي، تبقى عزلةً موحشة غير ممكنة الاكتمال، فالكاتب العربي لا يستطيع أن يعتزل ليكتب لأن معيشته تتطلّب منه أن يعملَ ويكدحَ من أجل لقمة العيش، وتجاوز حال الفقر الذي يحيط مجتمعه. ولهذا نجده يقوم بأعمال أخرى غير الكتابة ليوفر متطلبات حياته وعائلته.
هذا الواقع لا يقتصر على الكاتب العربي، لكن هذا الأخير لا يعيشه كحالٍ مؤقتٍ، يمكن أن يخرج منه ذات يوم، مثل الكتّاب في البلدان الأخرى، فغابرييل غارسيا ماركيز مثلًا كان قد اشتغل بمهنة الصحافة وتشرّد في الفنادق والمنازل الرخيصة، ولم يبدأ منعطفًا جديدًا في حياته إلاّ حين جلسَ ليكتب أعماله المهمّة ابتداء من "مائة عام من العزلة"، إذ تفرّغ للكتابة، "المهنة الأكثر عزلة" على حدّ قوله لصديقه بلينو ميندوزا.
هكذا، يبدو الحديث عن العزلة غير متحقّق للكاتب العربي، فهو بعد أن طحنته ظروف المعيشة اليومية، ودعته الحاجة لتجاوز الفقر، إلى أن يعمل في أكثر من مهنة، في أجواء غالبًا ما كانت قهرية وغير مهيأة للكتابة، ها هو يواجه ظروفًا أخرى أكثر قهرية وقسوة، صار معها يعيش مهددًا في حياته نفسها، حياته التي لم يعد بإمكانه أن يجد فسحةً فيها ليفكر، مجرّد التفكير في الكتابة.

المساهمون