كرسيتي كنين: بحث عن الجدة

28 يونيو 2018
(كريسي كنين)
+ الخط -

في إحدى حلقات برنامجه "المكتبة الكبيرة"، طرح المذيع فرانسوا بوسنيل سؤالاً حساساً: "من يمتلك طفولتنا؟"، كان السؤال مربكًا لضيوفه من الكتّاب وعلماء الاجتماع ومربكًا للمشاهد. هذا الارتباك لا يتعلّق فقط بسؤال بوسنيل، بل بالأسئلة التي تتوالد عنه، مثل؛ هل لنا الحق في التكتّم على رواية أحداث طفولتنا؟ باعتبارها حدثًا في ذاكرة الفرد، لنا كامل الحرية في التكتم عليه أو سرده لأننا من نملكه، أم أنه جزء من الإرث الجماعي والذاكرة الجماعية، ولا يجوز التكتّم عليه خاصة في أوقات شهدت مآسي إنسانية كبرى.

جاء تكتّم جدّة الكاتبة الأسترالية كريسي كنين على كل ما يتعلق بماضيها وماضي عائلتها ورحلتهم عبر البلدان حافزًا لتبحث الحفيدة الكاتبة وراء الأرشيف العائلي المخفي لجدتها، وهو الأرشيف الذي لم تجرؤ الكاتبة على الاقتراب منه في أثناء حياة الجدة، لكنها فعلت هذا بعد وفاتها، وأطلعتنا عليه خلال الندوة التي أقيمت مؤخراً في "مسرح روابط" في القاهرة بعنوان "العثور على جدتي".

الندوة أقيمت في القاهرة، ليس لأنها تمت باستضافة من دار صفصافة للنشر فقط، بل لأن القاهرة والإسكندرية كانتا جزءاً من التاريخ الشخصي لجدّة الكاتبة وجزءًا من التاريخ الجمعي لأكثر من خمسة آلاف سيدة سلوفينية قررن الهروب من سلوفينيا إلى مصر لأسباب اقتصادية وإنسانية تتعلق بقمع المرأة في سلوفينيا، اكتشفتها الكاتبة في أثناء رحلتها في تاريخ جدتها الشخصي.

الجدة كانت مفتونة بالحكايات والأساطير الغرائبية الخاصة بالشعوب وكائناتها الخرافية والبحث في كتاب الموتى الفرعوني الذي ينتقل فيه الإنسان إلى العالم السفلي عبر النهر. كانت تطالع كل الحكايات من مكتبتها الشخصية دون أن تجرؤ على سرد حكايتها هي وحكاية ثلاثة أجيال قبلها، يملك كل جيل منها حكايته الغرائبية حيناً والكافكاوية في أحيان أخرى.

بدأت رحلة كريسي بالبحث عن أصول جدتها التي اكتشفت أنها تعود إلى قرية صغيرة وفقيرة في سلوفينيا تعرّضت نساؤها للاغتصاب، ومن بينهن الجدّة نفسها والتي اغتصبت على يد جندي بولندي حينما كانت في العاشرة من عمرها.

تعتبر كنين أن هذه الحادثة من الأسباب الرئيسية التي جعلت جدتها تتكتم بطريقة مبالغ فيها على طفولتها وجذورها وأسباب رحيلها عن سلوفينيا التي تحولت إلى كابوس يهدد المواطنين، وخصوصاً النساء، بالمجاعة وبالمهانة: "قررت أكثر من 5000 سيدة الهجرة من سلوفينيا إلى مصر مع أطفالهن في الفترة من 1915 إلى 1916 للعمل كخادمات في بيوت الأثرياء".

تقول كنين إن تجربة مجيء جدتها إلى مصر مع مجموعة كبيرة من النساء السلوفينيات سمح لهنَّ بتكوين مجتمع خاص بهنّ، بما يشبه بذرة جديدة لمجتمع نسائي قائم على الاستقلالية والقوة بعدما قررن قطع الأواصر مع مجتمعهن وذكرياتهن السيئة معه.

هناك رحلة طويلة ستقطعها الكاتبة في القاهرة للبحث وراء الأحداث التي عاشتها جدتها في مصر بين الإسكندرية وهيليوبوليس بالقاهرة في الفترة من (1915- 1956) والأسباب التي جعلتها تحمل حقيبة صغيرة واحدة وتغادر القاهرة على عجل إلى أستراليا.

بدت كنين خلال الندوة مهووسة بفكرة تاريخ الجدة، وبدا هذا الهوس مشوقا حينما ارتبط بحوادث وظروف اجتماعية في أكثر من بلد، فضلًا عن شخصية الجدة المثقفة والغامضة المثيرة للفضول، كما تظهر الجدة كانشغال أساسي في بعض أعمال كريسي كنين الروائية والشاعرة وصانعة الأفلام.

من هنا يمكن القول إن "العثور على جدتي" مشروع بحث وتجميع قطع متفرقة لهوية تاهت بين البلدان، وملامح ضائعة لشخصية تبدو أحيانًا كشخصية حقيقية وأحيانا أخرى كشخصية روائية لكنها في النهاية تكتشف أثراً إنسانياً لا يخص الجدة وحدها.

المساهمون