لغتنا الجميلة

28 ابريل 2018

(منير الشعراني)

+ الخط -
ثمّة ظاهرة منتشرة بين أوساط النخب العربية، خصوصا المنخرطة منها في المجتمع المدني، الثقافي والحقوقي والإنساني. وأيضا بين النخب المنتمية للطبقات العليا في مجتمعاتنا العربية، تلك النخب، المالية، المستفيدة من فساد الأنظمة الاستبدادية ومدافعة عن وجودها، هذه الفئة التي تختار المدارس العالمية لتعليم أبنائها، وتبتعد عن المدارس الحكومية، ليس فقط لأن التعليم الحكومي في بلادنا تراجع إلى حدّه الأدنى، بل أيضا لغاية التشاوف والتمايز الطبقي الذي ظهرت أثاره واضحةً بعد ثوراتٍ ما كان يجب أن يكون ربيعا عربيا، وتحوّل بفعل القمع والبطش إلى سوادٍ عميم.
تتمثل هذه الظاهرة بإحجام هذه الفئات عن التحدّث باللغة العربية، واعتمادها على اللغة الإنكليزية في يومياتها: الأحاديث العادية اليومية، الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، الدعوات إلى المناسبات الشخصية والعامة، حتى في تبادل التهاني والتعازي، صارت المفردات الإنكليزية هي المستخدمة، بدلا من العربية. صرنا نقرأ مثلا أحرفا مثل (R I P)، بدلا من السلام لروحه، أو رحمه الله، على منشور على "فيسبوك" يبدأ بـ (إنا لله وإنا إليه راجعون)، أو مثلا أحرفا مثل (G P U) بدلا من مبارك لكما، أو بارككما الله، على منشور يبدأ بـ (تم بعون الله وحمده عقد قران فلان على فلانة).
صرنا نقرأ منشوراتٍ طويلةً باللغة الإنكليزية، يكتبها عرب على صفحاتهم، وتأتي التعليقات على المنشور باللغة الإنكليزية يكتبها عربٌ، عربٌ يعيشون في بلاد عربية أو في بلاد أوروبية يتناقشون بالإنكليزية في مواضيع محض عربية، من دون أن يكون بين المعلقين أو المتابعين أي أحد أجنبي، أو من دون أن يكون الموضوع ذا شأن ومهما لأي متابع أجنبي.
المدهش أكثر حين تكون في وسط جلسة تجمعك مع أشخاصٍ بينك وبينهم أصدقاء مشتركون في مدينةٍ عربية ما، ثم تنتبه إلى أنك لا تشارك في الأحاديث المطروحة، فاللغة المستخدمة هي الإنكليزية. وعلى الرغم من أنك تفهم ما يدور، إلا أنك تكون عاجزا عن مجاراة الحديث، لسبب رئيسي ومهم: دماغك قد تبرمج على تلقي اللغة العربية، حين تكون بين متحدثين عرب، مثلما تبرمج على التفكير باللغة العربية التي نشأت وتربيت عليها، ولم تهيئ نفسك للحديث بلغةٍ أخرى، فأنت في بلد عربي وسط أشخاصٍ عرب. لماذا إذا ستستنفر حواسّك، لاستقبال لغة أخرى وإرسالها؟
قبل مدة، التقيت مصادفةً بأميركي مقيم في القاهرة، وفوجئت به يهزأ من لكنة المصريين والعرب، حين يتحدثون بالإنكليزية. يعيش في القاهرة منذ ثلاث سنوات، ولم يشعر أنه مضطر لتعلم لغة البلد التي يعيش بها، بل ويبيح لنفسه الاستهزاء من لكنة من يتواصلون معه بلغته نفسها. صدمتني حالة الاستعلاء التي يمارسها هذا الشخص، لكنني فكرت لحظة بأنه محق، فنحن لا نحترم لغتنا، نبدو كمن يريد تبرئة نفسه من التحدث بالعربية، كما لو كانت هذه اللغة تهمة. وعلى الرغم من أنني ممن يشعرون بالندم، لأنني لم أتقن لغاتٍ أخرى غير العربية، بحيث أتمكّن من قراءة الأدب العالمي بلغاته الأصلية، ولكنني، في الوقت نفسه، أنفر ممن يتعالى على هذه اللغة البديعة، أيا كانت جنسيته، فكيف إن كان ابن هذه اللغة أصلا؟
زرت دولا عديدة. لم أسمع ولا في أية دولة لغة أخرى في الحديث اليومي والعادي بين البشر، سوى لغة البلد نفسها، أو الإنكليزية لغة وسيطة، حينما يكون هناك من لا يعرف لغة البلد. ما الذي يجعل العرب يستخدمون لغاتٍ أخرى غير لغتهم، وهم يعيشون في بلدانهم، غير الاستعلاء الطبقي والعنصري تجاه ملايين البشر الذين لا يعرفون سوى هذه اللغة، وغير الشعور بالدونية تجاه الغربي (المتفوق)؟
في مشاركة لي في مهرجان شعري في عاصمة أوروبية تحدثت بلغتي العربية، واعتذرت ممن لا يعرفون لغة البلد المضيف، حيث النصوص قد ترجمت إلى تلك اللغة، ولا يعرفون العربية. قلت لهم: آسفة، لا أعرف غير لغتي التي أحب. .. بعدي مباشرة، كان دور الإلقاء لشاعر عالمي شهير جدا. بدأ كلامه باعتذارٍ مني، لأنه لم يتعلم ذات يوم اللغة العربية التي يعرف مقدار جمالها.. هل يدرك الخجلون من لغتهم العربية معنى هذا الكلام؟
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.