نجيب محفوظ.. أتراح القبّة

30 نوفمبر 2016
(تصوير: ميشلين بلاتير ديكو)
+ الخط -

ربما، نتعثر في حياتنا اليومية بجمل تجعلنا نتخيل مخلوقات لا وجود لها، وأفكارًا لا نستطيع أن نفهمها. لعلّ عبارة "تهمة خدش الحياء العام" تكررت في اليومين الأخيرين، بشكل مثير للسخرية وبصورة غامضة، خصوصًا أن من وُجهت إليه هذه التهمة، رجل ميت، هو نجيب محفوظ! (1911 – 2006).  ولا بد في عالمنا العربي من الانتباه، أن لا أحد بارع في توجيه التهم، مثل رجال السلطة ورجال الدين.

قبل أن نحاول النظر في التهمة الموجهة إلى "الجاني" الحاصل على جائزة نوبل للآداب، فلا بد من إنصاف نائب البرلمان المصري الذي وجه التهمة (أبو المعاطي مصطفى)، والذي لم يكن أول من تصرف كطاغية واتهم ميتًا في قبره وتمنى لو تصدر السلطات ربما مذكرة جلب بحقه، بحيث يقوم حفار قبور محترف بتنفيذها، عله يتمكن من جمع رفات المتهم، الذي مات هربًا من العدالة!

فقبل هذا بخمسمئة عام تقريباً، أمرت السلطة الدينية في بريطانيا بإخراج جثة تينديل بعد سبعين عامًا من حرقه ودفنه، لتعاد محاكمته، ثم يتم إبعاده في قبر بعيد، وكل هذا، لأنه ترجم الكتاب المقدس إلى الإنكليزية، حتى يفهمه ويقرأه عامة الناس، بعد أن كان فهمه واستخدامه كأداة توجيه، حكرًا على السلطتين الدينية والسياسية فقط. وهكذا، فإن أبو المعاطي، لم يكن الأول.

وحسب النبأ، فإن مطالبة أبو المعاطي جاءت خلال جلسة كان يتم فيها نقاش تعديلات تخص العقوبات المتعلقة بخدش الحياء العام فيما يخص قانون النشر. حيث اعترض أحد النواب على ربط العمل الإبداعي والفني بخدش الحياء، وأن لا تعريف واضحًا لخدش الحياء في مشروع القانون؛ ما سبب مشادة بينه وبين النواب، أدت إلى التصريح التاريخي بقول أبو المعاطي إن روايات نجيب محفوظ خادشة للحياء.

ولأجل الحق، المبعد منذ مئات السنين عن الأراضي العربية، فيمكنني الجزم بأن تصريح النائب تاريخي. إذ إنه يعود بنا إلى زمن عتيق، توقف فيه العقل العربي عن إخضاع المعرفة والثقافة والفن إلى جدل وبحث مستمرين، يقود إلى طريق مستمرة (لا نهائية، حية) تجاه الحقائق والأخلاق، هذه الرؤية اصطدمت بمعرفة ناجزة (ميتة)،  لا يعدو أصحابها عن كونهم جثثًا معرفية وثقافية، أي أنهم نهائيون، ميتون.

لهذا، من الطبيعي أن يتم اتهام محفوظ بخدش الحياء العام، وهي جملة غامضة صيغت قانونًا ولغةً، وفقًا لمعرفة خصومه المتنفذين، والتي ليست سوى معرفة ناجزة تقود إلى الموت فقط؛ ما أوجب استدعاء نجيب محفوظ من قبره، على أمل أن يستجيب أموات آخرون، فلربما حينها، تتم محاكمته، إذ قال النائب أيضًا "في ذلك الوقت، لم تتحرك دعوى قضائية ضده!".

ربما في تلك الجلسة النيابية، كان إخراج محفوظ من قبره الحدث الأهم، لكن الكاتب هشام أصلان يشير في مقالته المنشورة اليوم، بأن المثقفين والمطلعين لم ينتبهوا إلى محاكمة الكاتب أحمد ناجي، الذي رفض القاضي إعادة النظر في قضيته، وهو يقبع في سجنه منذ عامين لما كتبه في إحدى رواياته ووصف بأنه خدش الحياء العام، كما يشير إلى نواب الشعب، الذين تلجأ الحكومة إليهم كلما أرادت تمرير أي قرار.

ثم يتحدث عن تركيبة المجالس النيابية، والتي لن يكون معظم نوابها مهما تبدلت هذه المجالس، قراء ومثقفين، أو متصلين بالإبداع، بقدر اتصالهم بما تفرزه السلطة من قوانين و"معرفة" و"حقائق" تخدمها فقط. وربما ينطبق هذا على معظم مجالس البرلمان، في الوطن العربي؛ ما يجعل الحياء العام محصورًا بما تفرضه السلطة فقط، وتقدمه، على أنه خدش للحياء.

وبمقابل حصول محفوظ على أرفع جائزة أدبية عالمية، فإننا سوف نمنحه لقب خادش الحياء العالمي، ومحرض الرواة على الحرية، والفنانين على الرسم، والمخرجين على الحب. أما هذه التهمة، فلا يمكن قول شيء أكثر بشأنها، سوى أن الأموات، يتهمون نجيب الحي، وهذا دليل على خلود العمل الأدبي ربما، إذ يستمرون في طرده كل مرة، من أرض الموتى، إلى الحياة.

المساهمون