هذا التحكّم في المجتمعات

22 مايو 2016
+ الخط -
التحكم والهيمنة والسيطرة وفرض الشرائع وإصدار المحرمات على المجتمعات والجماهير ليس بالضرورة أن تكون منوطةً بشخص أو لوبي معين، فهنالك ما يأسر المجتمعات ويقودها، ممتلكاً قوة ناعمة تمارس على الفرد وتؤثر عليه بشكل أعمق وأطول، فالعادات والتقاليد مداخل للسيطرة على الأفراد لتصبح، بمرور الزمن، قوانين عقلية بديهية ملازمة لكثيرين منهم، منذ الولادة إلى الممات، وهناك الأيديولوجيات السماوية والأرضية التي عايشت البشرية، ومازالت، منذ قرون طويلة، تشكل الحياة البشرية وتنظمها.
كانت الأديان دوما أساليب للسيطرة والتحكم، حيث تظهر الخلافات حول أساليب ممارسة الأديان في كل مناحي الحياة البشرية في سلمها وحربها. لذا، ينبغي لزاماً أن نحيد هذه الخلافات الدينية التي انبثقت عن أساليب مورست باسم الأديان من الحكم الجبري لمعاوية، وليس انتهاءاً بمحاكم التفتيش.
تعتبر الأديان الناظم والمتحكم، ليس بما تمتلكه من قوة إقناع وانتشار فحسب، وإنما بطبيعة البيئة المجتمعية المتلقية أيضاً، لكنها، في الوقت نفسه، تمتلك من الثغرات ما يمتلكه أي نظام قد ينفلت من قيوده الناعمة، فتظهر الثغرات واضحة، وتتجلى بظواهر التشدد أو اللين، ما يؤدي إلى صعوبة توجيه أتباعها إلى عدم القدرة على التحكم بمنظومة "التحكم"، وبالتالي، يحصل الانفلات من التحكم المطلق.
أخذت قضية التحكم بالشعوب حالياً حول العالم شكلا مغايراً لما كانت عليه في العصور الماضية، منسجمةً مع مفهوم التحرر الصاعد والطموح الذي ينشده كثيرون من الأفراد والأوطان والقوميات، جراء تراجع سيطرة الأديان السابقة في أوروبا وتقهقر الأيديولوجيات الشمولية.
هذا يأتي مع صعود الفكر التحرّري الأوروبي إلى مراحل متقدمة، بسبب الطبيعة التحررية المتأصلة بالفكر، ما شجع نظام التحكم على التنامي بالتوازي مع ذلك الفكر، ليتبلور مفهوم جديد نطلق عليه اليوم الإعلام المعاصر، والذي كان تجديده أمراً ملحاً وتزكيته ضرورة في وقت يشهد تزايدا في المطالبة بفك القيود، وإعلاء مفهوم الفكر التحرري للمجتمعات الإنسانية، وبشكل متصاعد .
هذا الصعود في الفكر التحرّري أدى لتشكيل احتمالات وخوارزميات عدة ومتوالدة، يصعب ضبطها عن طريق تحكم ديني تقليدي، فكان لا بد من البحث عن عصا سحرية تحفظ استمرارية التحكم، فكان الإعلام (الدين الجديد) قادر على التحكم بجمهوره، عبر صناعة رأي عام يضبط سيرهم.
إنها سياسة كونية أزلية من حيث المبدأ، تسعى إلى التحكم بالمجتمعات من خلال الأديان أو الإعلام، للاستفادة من توجيه طاقة الموارد البشرية، كونها مادة خام بطبيعتها، وتعتبر أحد أهم عناصر الطاقة الموجودة في الكون الواجب تطويعها، لتستطيع تلك القوة الناعمة تأليب الرأي العام المحلي والعالمي نحو سياسات وأفكار وأيدلوجيات معينة، إذ يذكر تشومسكي أن أول عملية تضليل وتجييش للرأي العام الأميركي كان في العام 1916 من أجل مشاركة المواطنين في الحرب ضد الألمان، ومحاولة الإدارة الأميركية أيضاً تجييش الجمهور الأميركي لأجل تأييد الحرب الأخيرة على العراق، من خلال حملة إعلامية ضخمة، ما رفع نسبة مؤيديه للحرب إلى 74% وإقناعهم بأن صدام حسين يمتلك أسلحة نووية بنسبة 83%.
التحكم بالجمهور هو محاولة لضبط سير حركة التاريخ، لتتحكم بأي طفرة أو ثغرة قد تظهر في كل انحناء تاريخي، أو تغيير فيه، وإن استغلال تلك الثغرات يمكّن من اكتساب الزمن على صعيد التغيرات والتطورات المجتمعية بقفزات زمانية كبيرة.
تتوافق حركة الشعوب المتحكم بها نسبياً مع حركة الزمن الطبيعية، وأي تغير أو طفرة في النسق تتخطى الشعوب بقفزات زمانية لا مكانية، تتمثل بالاكتساب من المفاهيم والعادات والأفكار والتحولات، وتلقيها بشكل مكثف، ما يؤدي إلى آثار جانبية تمس البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وتخضع هذه التغيرات أيضاً لمفهوم الميزان والتوازن، فعمليات الاكتساب المكثفة غير المتوافقة مع الانسياب الطبيعي (حركة الشعوب مع الزمن) تؤدي إلى النقصان بنفس الكثافة المكتسبة من معتقدات وتقاليد وأفكار، وتؤثر معنوياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً في الكفة الأخرى من الميزان.
هنا، نستطيع أن ننظر للإعلام كـ "ديانة" جديدة للتحكم بالمجتمعات في الغرب، إثر فقدانها التحكم الديني، بعد أزمة الأديان وما عرف بتسلط الكنيسة، إذ بنى الغرب جداراً فاصلاً عن الموروث القديم، ليؤسس بذلك لدين جديد، واستطاعت هذه الديانة (الإعلام)، وبسياسة القوة الناعمة تأليب الرأي العام المحلي والعالمي نحو سياساتٍ وأفكار وأيدولوجيات معينة، إلا أن المجتمعات الشرق أوسطية والإسلامية والعربية وغيرها الكثير، لم تصل إلى حالة من الوعي المشترك للرغبة في التحرر من القيود الفكرية التي كانت عادات وتقاليد أو أيديولوجية سماوية أو أرضية، لتعيش حالياً حالة أشبه بالمخاض في زمن الثورات التي تعيشها المنطقة الآن، لتبدو كأنها ولادة قيصرية الطابع، نتيجة تنامي الحركات الراديكالية الدينية في المنطقة وذهاب بعضهم إلى أقصى اليمين، وذهاب آخرين إلى أقصى اليسار، ما أثر سلباً على الشعب بأطيافه كافة، ووضعه في متاهات كبيرة، ليعيش في الزمن الصعب أزمة فكرية وانتمائية، ولتتفاقم الطفرة وتتسع الثغرة في حركة تاريخ المنطقة مما يقود رغماً عن إرادة الجميع إلى إعادة رسم المنطقة أيديولوجياً وجغرافياً لنحذو حذو المجتمع الغربي مع كنيسته، متجهين نحو تعاظم فكرة الانفصال عن الموروث القديم من أديان وقوميات وأيديولوجيات لحين يتحكم بنا دين جديد.
الدعوة الآن إلى التحكم بمدخلات العقل بتعقل وحرية أمر ملّح لا بد منه، فهل نحتاج إلى ثورة للمطالبة بها أم نشد الرحال لنبني جدار الفصل؟
30F1069C-9142-4BC8-B8D3-7C3F97BDB45F
30F1069C-9142-4BC8-B8D3-7C3F97BDB45F
باسل الحمادة (سورية)
باسل الحمادة (سورية)