من أجل أنبوبة غاز

من أجل أنبوبة غاز

11 يونيو 2014

ينتظرون في غزة تعبئة غاز الطهي (يوليو/2006/فرانس برس)

+ الخط -
في الصّباح الباكر، كانت جارتي الأرملة تشير لي بيدها، من أمام باب بيتها القرميدي، فيما أقف أنا في شرفتي، إشارةً أعرف معناها جيداً بأن هناك "خبراً عاجلاً" حدث في الحي، فأسرعت بالنزول، وتلقفتني بقولها: جارنا "تحسين" طلّق زوجتيه الإثنتين؟ سألتها بدهشة: كيف ذلك، وهو الذي كان يحمد الله أنّهما رضيتا العيشَ معه على الرغم من عقمه؟
أجابتني جارتي أن لديه منطقه المقنِع، جرّاء هذا التصرف المفاجئ، هو: بيت فيه أنبوبة غاز بلا زوجة، أفضل من بيت فيه زوجتان من دون أنبوبة غاز. ...، وكان "تحسين" يعيش مع زوجتيه في بيت واحد، ولكل منهما شقّتها الخاصة، وأنبوبة غاز واحدة. وصادف أن نفدت الأنبوبتان معاً، وأرسلهما إلى الموزّع، ليعيد تعبئتهما، وبسبب أزمة الغاز في غزّة، طال انتظار وصول الأنبوبتين، واستمرت الزوجتان تستخدمان البابور، حتى وصلت أنبوبة واحدة، فأشعلت فتيلَ معركة حامية بينهما، حسمها الزوجُ بخلاصه من الزوجتين، والاحتفاظ بالأنبوبة، لأنها، كما قال، أهمّ لديه من الزوجتين، فهو لا يستغني عنها، وأصبح يعيش وحيداً، مع أنبوبة غاز، يستخدمها في إعداد طعامه وغلي قهوته.
استمر الحيّ يتناقل قصة "تحسين" الذي ضحّى بالزوجتين، من أجل أنبوبة غاز، أياماً طويلة، ولم أستغرب ما حدث، لأن المرأة الغزّية كانت، ولا زالت، تدفع ثمن كلّ المآسي التي تعيشها غزّة، فلا عجبَ أن تبتدع مهنة جديدة، هي "امرأة الأنابيب"، حيث تقف سيدة فقيرة عدة مرات، في طابور طويل، لتقوم بتعبئة أنبوبة صاحبها الثريّ، والذي قد يكون موظفاً، لا يجد وقتاً ليمضي نهاراً كاملاً في انتظار تعبئة أنبوبة الغاز، ويمنحها مقابل ذلك مبلغاً بسيطاً من المال، لا يزيد عن 10 شواقل إسرائيلية (3 دولارات). لذلك، اعتاد موزّعو الغاز على رؤية وجوه نسائية مكرّرة في الطوابير، يزاحمن الرجال، ليظفرن بتعبئة أكثر من أنبوبة في اليوم الواحد.
معاناة غزّة مع الغاز منذ سبع سنوات هي نتيجة عدم توازن احتياجات القطاع مع ما تسمح إسرائيل بإدخاله، فقطاع غزة يحتاج يومياً 250 طناً من غاز الطهي، والكمية التي تسمح إسرائيل بإدخالها 170 طناً، ما يؤدي إلى هذه الأزمة التي تزداد في الشتاء، وأعادت البابور إلى عصره الذهبي في البيوت، وباتت تجارة "البوابير" التي هربت من مصر، عبر الأنفاق قبل إغلاقها، تجارة رائجة، ولم يعد هناك بيت يستغني عن " البابور" بديلاً للغاز، وكنت كغيري من ربّات البيوت الغزّيات اللواتي وجدن مشقة في استخدام البابور، واعتقدن أنه من تراث السينما القديمة فقط، خصوصاً أنه يؤدي إلى اتساخ سطح الأواني الخارجي بالسِّناج، صعب التنظيف، علاوة على الغازات المنبعثة من اشتعال الفتائل الكتانية المغموسة في حاوية صغيرة مليئة بالكيروسين. لذلك، أحرص على وضعه في الشرفة، لكي لا يلوث هواء الشقة، وأقوم بطلاء سطح الأواني بمزيج من الصابون السائل والرمل، حتى يسهل علي إزالته عند التنظيف.
في أيام عدوان حرب العام 2008، وحين كنت أجلس قبالة البابور، أرتجف برداً فيما دوي القصف يحيط بي من كل اتجاه، كنت أستعيد ذكرياتي في بيت جدتي، عندما كنت صغيرة، وكيف كانت جدتي لا تسمع إلا بأذن واحدة، فيما كان جدي ثقيل السمع بحكم سنه، وكانت جدتي تطلب مني أن أراقب إبريق القهوة فوق البابور، فيما تطعم هي بطّاتها، وتطلق على البابور اسم" البابور الأخرس"، وأظل ساعات طويلة، أحملق بهذا الكائن الأخرس، وأتساءل في نفسي: ترى أي عاهة تنتظرني في هذا البيت، ما دام جدّاي لا يسمعان جيداً و"بابور جدتي" أخرس؟
 ظل سؤالي معي سنوات، ولكني عثرت على الإجابة، حين عدت إلى استخدام البابور الذي لا يطلق صوتاً كالنوع الآخر من "البوابير" عند إشعاله، لكنه يودي بحياة الأبرياء من النساء والأطفال، عندما ينفجر أحياناً فجأة، ويطلق غازات سامة، ويتسبب بتشقق يديَّ الناعمتين.

 

دلالات

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.