سيرة العقل والجنون (16)
دخلت القصة التي كان يرويها لنا أبو الجود خلال سهرات الإمتاع والمؤانسة الإسطنبولية في منعطف تاريخي. كان حلم حياة الشاب بكار أن يموت والدُه الغني البخيل، وتؤول الثروة إليه من أجل أن يعيش حياته كما يحب ويشتهي.. وقد مات والده فعلاً، ونقله إلى المقبرة بسيارة البلدية، ورفض أن يقيم له مجلس عزاء لئلا يدفع أي مصاريف، وكان هذا الموقف انتقامياً خالصاً لأن المرحوم، عندما كان حياً، حرمه من أبسط مباهج الحياة.. تعرض بكار، خلال الفترة الأولى لانتقادات حادة من بعض أهالي القرية، لتقصيره في واجب والده، ولكنه كان يرد على منتقديه قائلاً:
- الله يرحم أبوي، كان ما بيحب الصرف والبعزقة، وكان يحكي لي أنه يوم مات جدي ما صرف على تعزيته ليرة واحدة، عنده حكمة بتقول إنه إذا الله بعت لك ولد، لازم تحمده وتشكره، لكن على قولة المتل (الصبي من عند الله، لكن خَرَاب البيت ليش؟).. ويوم ولدتني أمي، بحسب ما حكت لي، رفض يدبح خاروف، أو يعمل مهلبية للضيوف، وكان يقول لأمي هادا أول ولد، إذا منفتح برنامج الصرف، منصير كلما أجانا ولد بدنا نصرف ونبعزق.. وفي حالة الوفاة كان يقول: الإنسان الله بيخلقه والله بياخده، أنت أشو دخلك لحتى تمد إيدك على جيبك وتبلش الصرف والتبذير؟ وإذا حدا ألح عليه كان يتحول، فجأة، لشيخ ورع، ويظهر إيمانه بالله ورسوله وكتبه، ولما كان يقرأ بالمصحف الشريف، كان أكتر آية بيحبها وبيرددها هيي (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً).
علّقت أم زاهر: لكن بكار، بحسب ما إنت حكيت لنا بلّش التبذير بعدما رجع من المقبرة مباشرةً.
أبو الجود: نعم. صحيح. وأنا نسيت ما أحكي لكم، لما أم بكار طلبت من بكار يقوم بواجب العزا لوالده، أول شي قال لها إنه هوي ما معه مصاري، لأن الوالد كان حارمُه حتى من الخرجية.. أم بكار كانت مخبية خمسمية ليرة في بقجة تيابها، طالعتهن، وعطته 400 ليرة، وقالت له خود، اعمل الواجب، الله يرضى عليك يا إبني، ولا تخلينا نصغر في نظر أهل القرية. المهم بعد الدفن، راح بكار لعند الحاجة أم قدور اللي كانت في بعض الأحيان تساعد أمه بالطبخ، وعطاها مية ليرة، وطلب منها تعمل له أكلة كبب، ولما صارت الكبب جاهزة، مع اللبن الخاتر المدوب (العيران)، حملها وراح ع الخرابة اللي بيقعد فيها حمادة المجنون، وقال له: تعال ناكل الكبة قبلما تبرد.
حاول الأستاذ كمال تفسير هذا القسم من الحكاية قائلاً إن بكار تَقَصَّدَ أن يُطعم المجنون حمادة من نفس الطعام الذي رفض والدُه أن يطعمه منه، وهو الكبب، لأنه طعام عالي التكلفة، فاخر، وهذا يتناغم مع النزعة الإنسانية الرائعة الموجودة في شخصيته.
أبو محمد: كلامك صحيح أستاذ كمال، بس يا ريت يحكي لنا أبو الجود أيش صار مع بكار بعدين..
أبو الجود: اللي عرفته بوقتها، إنه حمادة المجنون كان جوعان، ولما شم روائح الكبب التازاية طَق عقله (مع أنه هوي بلا عقل أصلاً) وأكل شي سبع أو تمان قطع كبة مشوية، وشي عشرين دعبولة مقلية، وشفط شي ليترين عيران، وحمد الله وقال لبكار: بتعرف يا أبو أكرم؟ هدول القطع اللي زادوا لازم نطعميهم لجماعتنا..
أبو جهاد: يا سلام. ومين بقى جماعة حمادة المجنون؟
أبو الجود: جماعته هني المجانين والمهابيل الموجودين في القرية. بكار لما سمع هالاقتراح من حمادة سأله: مين جماعتنا عمي حمادة؟ قال له: أبو الدكّْ وحَبَطْبَط واخرطي وطَقّ مْصَدّ. قال له: أبشر. بس وين بدنا نلاقيهن هلق؟ قال له: في حاكورة سليمان آغا. قوم معي. وشالوا الأواعي المليانة كبب مقلية ومشوية وعيران، وراحوا ع الحاكورة. حمادة حط أصابيعه في تمه وصفّر، وما في دقيقتين المجانين تجمعوا وباشروا بالكبب والعيران والبصل.. ما في ربع ساعة زمان كانوا خالصين.
أبو ماهر: بتعرف يا أبو الجود؟ أنا كتير مبسوط لأني سمعت هالقصة. عندنا في حماه بتلاقي ناس بيهتموا بالفقرا وبالمجانين وبيطعموهن، لكن ما حدا وصل بالكرم لمستوى إنه يطعميهم كبب. هادا بكار بالفعل إنسان عجيب.
أبو الجود: أنا بهديكه الأيام كنت عم إخدم عسكرية، وجيت مرة ع الضيعة، وكنا في فصل الربيع. لما نزلت من السيارة شفت بكار قاعد عالمرج الأخضر وحواليه كل مجانين القرية.. اللي بيشوفهم من بعيد مستحيل يعرف أشو هوي الحديث اللي داير بيناتهم، واحد عم يحكي، والبقية عم يسمعوا، وواحد منهم بيضحك وبينط لفوق وبيصفق، والتاني بيعترض، وبيصيح بالمقلوب، وبكار بيحاول يهديهم. ولما أنا وصلت لعندهم رفع بكار إيديه لفوق وعطاهم إشارة إنه يسكتوا هلق. فسكتوا، وقعدوا عَ المرج، ومدوا رجليهم لقدام. وأجا لعندي بكار وتباوسنا، وسألته عن أخباره، فقال لي: روح هلق سلّم على أهلك، ورتّب أمورك. والمسا تعال لعندي منشرب شاي ومنحكي.
ضحكت وقلت له: بس شاي؟ طَرّي إيدك شوي أبو أكرم.
ضحك وقال لي: شاي بس. ونحن بالعادة منعملها خفيفة، بس كرمالك إنته ممكن اليوم نتقلها شوي!
حنان: بقلك شغلة يا أبو الجود؟ إنته عم ترسم شخصية بكار بطريقة.. بطريقة شو منقول؟
كمال: قصدك مبتكرة.
حنان: مو بس مبتكرة. مع احترامي إلكم إنته وأبو المراديس، ولا مرة حكيتوا لنا قصة بهالمستوى.
أبو جهاد: وحدي الله خيتو. هلق أبو الجود أحسن من كمال وأبو مرداس؟ لا بقى تقولي هيك أحسن ما يصدق..
أبو المراديس: بصراحة يا أبو جهاد؟ الست حنان معها حق. طريقة أبو الجود في رسم هاي الشخصية بالذات مميزة. الشي المميز هو إنه ترك شخصية بكار في البداية مجهولة، وبعد وفاة والدُه بلش يكشف عنها الأغطية بتمهل، وبطريقة سلسة. ولذلك كلياتنا صرنا متشوقين لنعرف أيش صار معه.
(للقصة تتمة)