في مدينتي كل شيء بنكهة الحرية

11 سبتمبر 2023
+ الخط -

الحرية إنها الكلمة الساحرة، الكلمة التي غيرت واقعنا إلى الأبد، والذي يبدو أنه ما زال مستمراً في التغيير، ما دمنا نقدس هذا المصطلح.

لا أعرف إن كان الكثيرون منا ينتبهون إلى مدى تأثير هذا الأمر في حياتهم اليومية أم لا، بدءا من اختيارهم لأماكن التبضع، إلى استقلال وسائل النقل العمومية، كل ذلك نختاره بناء على أنه يوفر لنا الحرية، هل نحن كائنات تبحث بالفطرة عن الحرية؟ هل نحن كائنات نهرب من القيود والالتزام؟ قد يكون هذا الأمر صحيحا، أم أننا فقط ضحايا نظام تغلغل في داخل مجتمعاتنا، نظام يتحكم في جميع شؤوننا، غير أنه في الأخير يوهمنا بأننا أحرار، وما ذلك في الحقيقة إلا لتحقيق أكبر قدر من الاستهلاك.

لا أدل على هذا الأمر من وسائل التواصل الاجتماعي، هل ندرك حقا لماذا ندمن عليها، حسنا لأنها توهمنا بأننا أحرار، مثلا في العالم الافتراضي، نعتقد أن لنا الكثير من الخيارات، التحدث إلى أناس غرباء، القيام بأعمال ربما لا نستطيع فعلها أمام الناس، التحكم في هويتنا، حيث إن الهوية الافتراضية هي هوية قابلة للتعديل عليها متى شئنا، بدءا من الصور، المنشورات التي تعبر عن شخصيتنا، بل ولنا خيار ممارسة العنف والعدوان أيضا وهذا الأمر لا يتاح لنا في الواقع، في العالم الافتراضي، نستطيع الكذب، التظاهر بأننا خبراء في أمر ما، ما دمنا نحن الذين نتحكم في هويتنا، ولا تفرض علينا من واقعنا الاجتماعي، أو الأسري أو غير ذلك.

الكلمات المفتاحية للإقبال هي الحرية إذن، أو وهم الحرية، لأن الخوارزميات تخبرنا بأمر خلاف ذلك، حيث إننا سرعان ما نصبح ضحايا هذه الشبكات وعبيدا لها، بعدما توهمنا بأنها تمنحنا الحرية، في كتابه اختفاء الذات عن نفسها، يتحدث السوسيولوجيا الفرنسي في كتابه ذا، عن أن الناس يلجؤون للكثير من الوسائل حتى يصلوا لمرحة البياض، إنها المرحلة التي يتخلصون من ذواتهم، الفيزيائية بطبيعة الحال، هذه الحالة أو اللحظة بقدر ما تعبر عن ملل الشخص من ذاته، هي تعبر أيضا عن تذمره من القيود التي تفرض عليه في العالم المادي، لذلك هو يحاول التخلص منها، بأي طريقة كانت، فلحظات الانتشاء التي يشعر بها متعاطو المخدرات، هي من بين اللحظات المعبرة عن هذا الأمر، حيث إن الأشخاص في تلك الحالة، يشعرون بأنهم متخلصون من القيود في عالمهم المادي، أو أنهم أحرار.

الحرية إنها مثل الهروين، من يتذوقها بداية، يصبح مدمنا عليها، يستحيل أن يقلع عن هذا السلوك

في مدينتي التي بدأت تغزوها المراكز التجارية الكبرى، أصاب بالهول من شدة ما أرى من إقبال الناس عليها، وكاتب هذه السطور لم يختلف أمره عنهم، فغدوت لبرهة أتأمل لما ترانا نقبل عليها، إنه وهم الحرية أيضا، التجول بحرية، الدفع بالطريقة التي تريد، خيار رد السلعة. لكن أليس هذه الامتيازات هي بمثابة قيود تجعلنا ندمن التسوق، تجعلنا ندمن الإقبال على هذه المراكز دون غيرها، بل الأمر لا يقف عند هذا الحد، المطاعم الكبرى، ذات العلامات التجارية العالمية، إن لها نكهة خاصة، مثل طعم الكوكا كولا، تجعل الناس يقبلون عليها بشكل رهيب، غير أن اللازمة دوما هي نفسها، نستعبد الناس، من حيث إننا نجعلهم يعتقدون أنهم أحرار.

الحرية إنها مثل الهروين، من يتذوقها بداية، يصبح مدمنا عليها، يستحيل أن يقلع عن هذا السلوك. في لقاء أخير للمفكر الفلسطيني وائل حلاق، انتقد مفهوم الحرية في الغرب، وهو المحرك الأساسي للنظام القائم في الغرب بدون شك، وما النماذج أعلاه إلا تمظهرات لذلك، حاول وائل حلاق انتقاد مفهوم الحرية في الغرب، إذ إنها أفضت إلى كوارث، كما أن الحرية ليست هي الموجودة في الغرب فقط، بل هناك أنواع من الحرية، عرفتها حضارات أخرى، منها على سبيل المثال الحضارة الإسلامية.

أشار وائل حلاق إلى نوع من الحرية، وهي تلك الموجودة عند المتصوفة، حيث إن التصوف في حقيقته هو تعبير عن الحرية، لكن حسب العروي، هذا النوع يندرج ضمن الحرية التي توفرها العبادة، فالعبادة هي نوع من الحرية، وهناك حرية أخرى توفرها القبيلة، حيث إنها تحمي أفرادها من جور النظام مثلاً، كما أن هناك حرية أخرى وهي التي عبر عنها الصعاليك المتمردون على نظام القبيلة.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".