لماذا لا تبكي يا أبي؟
لماذا لم تبك يا أبي؟ لماذا قاومت دمعتك؟ لماذا لم تخرجها وتدعني أبكي معك؟ لماذا أشحت بوجهك عنّي وأنت تُوصلني إلى الحدود وتسلّمني بيديك إلى المهرّب؟ هل كنت تقول لي في سرّك: اهرب لتنج بروحك "ابق حيّا"؟!
أم أنك كنت تؤنبني على عملي في الصحافة التي حذرتني مرّات ومرّات من الخوض فيها؟ أكنت ترمقني بتلك النظرة لتذكرني بكلمتك، وأنت تنتظرني عند خروجي من باب السجن، حين قلت لي: "الصحافة هي الحقيقة التي تفضحهم، لن يتركوك".
الآن من منفاي، لأني أصررت على أن أكون صحافيا، وعلى العلن من عينيك: أعتذر. نعم أعتذر لأني آمنت بوطني، واعتقدت مخطئاً أنه ككلّ الأوطان على هذه البسيطة يحتاج إلى سلطة رابعة، إلى صحافة لا يحكمها إلا قول الحقيقة، حقيقة تفضح كلّ فاسد وفساد، تقف في وجه كلّ طاغية ليبقى وطناً يظلّل أبناءه، ولكني نسيت أنّ الفساد عندنا هو الحاكم، والمفسدون هم أزلامه، وأننا مجرّد عبيد في مزرعتهم التي أقنعونا كذباً أنها وطن. هل تسمح لي يا أبي أن أستمر بالكتابة، أستمر في فضحهم وأقصّ على الناس قصص فسادهم؟ دعهم يسمعون، دعهم يستيقظون، ودعنا نقصّ سوياً بعض قصص النظام في سورية.
السجن للمرة الأولى
في المرة الأولى التي تمّ اعتقالي بها بعد نشر تحقيق عن شبكة فساد في أهم مؤسسة حكومية مرتبطة بإحدى المحاكمات، تمّ استدراجي بحيلة شيطانية إلى فرع الأمن. كنت أسمع الاتصالات بين الضبّاط وبعض المسؤولين بشكل محموم. وحتى اللحظة الأخيرة، كنت مؤمناً أنّ شريفاً ما في هذه الدولة سيتصل لينهي هذه المهزلة الحاصلة. فعقلي لم يكن ليستوعب أنّ شخصاً بغضّ النظر عن موقعه ومكانه وعمله، قد اكتشف هدراً وسرقة بملايين الدولارات من خزينة الدولة سيكون مصيره السجن، بينما يجلس الفاسدون على كراسيهم بكلّ عنفوان ويصدرون الأوامر بسجنه.
قد تستغربون إن قلت لكم إنّ أغلب العناصر والضباط الذين قابلتهم كانوا من المعارضين قلباً، والمحتجين على نظام الفساد هذا، لكنهم خائفون على أنفسهم ثانيا، وعلى عائلاتهم أولا. فأثناء تنقلي بين النظارات حتى أصل إلى مرحلة المثول أمام القاضي، حرص الكثيرون منهم على الهمس في أذني بأقوى الشتائم للنظام. بعض العناصر رفضوا تكبيلي "بالكلبشات"، وأحدهم قال لي، وهو يضعها بشكل رمزي في يدي: "هذه القيود في يدي المذنب عار يلاحقه طوال عمره، وفي يديك فخر إلى ولد ولدك". الشرطي الآخر في السجن الذي أوقفني أمام كاميرات المراقبة وتظاهر بتفتيشي دون أن يلزمني بخلع ملابسي، بينما كان يكلمني قال بصوت ضعيف: "لا تدعهم يكسرونك ابق صوتنا نحن الفقراء".
كنت أحسّ بصدق مشاعرهم فعلاً، وأقرأ الحبّ في عيونهم، وقد تكون هذه الكلمات من العناصر الأمنية بعد تكرار سجني لاحقاً، أو من أناس عاديين كنت أصادفهم في الشارع، هي ما وضع الأمانة في عنقي بوجوب الاستمرار في كتاباتي.
عند وصولي إلى السجن تمّ وضعي في مهجع الحجر الصحي بسبب تفشّي وباء كورونا. وفي الواقع لا شيء فيه من الصحة، عبارة عن غرفة صغيرة يزج فيها خمسون سجينا قبل توزيعهم على مهاجع السجن. ولأني القادم الأحدث، سيكون فراشي ملاصقاً للحمام، حمام بباب مهترئ من الأسفل، كنت أصحو بسبب رذاذ البول المتناثر على وجهي كلّما دخل أحدهم ليقضي حاجته.
في صباح اليوم الثاني، جاء إليّ شرطي وأخبرني بأنّ صفحات التواصل الاجتماعي تشهد حملة تضامن قوية معي، ثم أضاف "ولكن"! حاولت أن أدفعه للكلام، لكنّه نظر في عيني آسفا وذهب مسرعاً إلى زميل يناديه.
وعلى الرغم من أني أحسّست بالفخر من شعب حيّ هبّ يناصر مظلوماً بما أتيح له من وسائل رغم سطوة الأجهزة الأمنية، لكن الخوف اعتراني وبدأت وساوس العقل تستفحل، وألف سؤال يدور في رأسي عن سبب وجوم الشرطي وقطعه للحديث. حتما هناك خطب ما، ولكن: ما هو ؟
تلفيق التهم
لا أحد في سورية لم يعرف شخصياً أو يسمع من قريب له عن سطوة الأجهزة الأمنية، عن قذارة أساليبها ووحشية معاملتها أيّا كان نوعها، وتلفيق التهم هو الأسلوب المفضّل لديها، فالتهمة التي تدخل بها قد تكون أبسط ما ستواجهه من تهم إضافية، فأنت مجرّد فريسة ممتازة تُلصق بك كلّ الأحداث والقضايا التي قيّدت ضد مجهول ليثبت الضابط المسؤول حسن عمله الأمني. أما إن كنت صحافياً مشهوراً، ولك موقف معارض أو حتى ترفض التطبيل والتأليه للرمز، أو لأيّ سياسي معروف، فسيكون ما تواجهه يتجاوز ما تستطيع أقصى كوابيسك توقعه. وطبعاً كله بنصوص وقوانين جاهزة تمّ سنّها لتناسب كلّ مرحلة. ومرحلتي كانت الأسوأ، إذ كانت بعد سن قانون الجرائم الإلكترونية ذائع الصيت، وإنشاء أقسام أمنية ومحاكم خاصة له، وأشهر تهمه كانت "وهن نفسية الأمة" التي تصل مدة حكم السجن بها لخمسة عشر عاما، وأطلق عليه الناس في سورية قانون "سد بوزك يا مواطن"، أي اخرس أيها المواطن الشريف.
في سورية، أنت مجرّد فريسة ممتازة تُلصق بك كلّ الأحداث والقضايا التي قيّدت ضد مجهول ليثبت الضابط المسؤول حسن عمله الأمني
صحيح أنّ تهمتَيْ أخفّ من ذلك بقليل، وهما "المسّ والنيل من هيبة الدولة وتحقير الإدارات العامة"، ولكن كلام الشرطي أخافني ودفعني كي أناديه في ساحة التنفس وأرجوه أن يخبرني بما يحصل. وأعترف أنّي لم أتخيّل مطلقا أن يصلوا إلى ذاك المستوى الساقط من الوقاحة، كان ردّ النظام لتهدئة الفورة الشعبية ضده بسبب سجني تحت إطار هذا القانون المكروه بالتصريح رسمياً، وبشكل علني لوسائل الإعلام، من قبل قائد الشرطة ووزارة الداخلية أنّ محاكمتي لم تكن بسبب كتاباتي الصحافية، ولست موقوفاً بقانون الجرائم الإلكترونية، بل لأنّي ارتكبت جرمين جنائيين قذرين، هما: اغتصاب فتاة قاصر وسرقة سيارة، بالإضافة لجرم ثالث يتمثّل بتهرّبي من أداء الخدمة الإلزامية، ما يستلزم محاكمة عسكرية أيضاً.
حين قال لي الشرطي ذلك تذكرتك يا أبي، تذكرت جملتك "هم لا يريدون صحافيين، هم يريدون طبالين، فكن على حذر". رغم يقيني بأنهم اتخذوا قرار نحري، لكني شعرت بطمأنينة وسكينة أزالت كلّ الخوف من قلبي، شيء ما في داخلي أنبأني بانتصاري، وهذا ما تأكد في اليوم الثالث.
السحر على الساحر
لوهلة ظننت أني أحلم، جاء الضابط المسؤول بنفسه إلى غرفة الحجر ونادى باسمي، وضع يده على كتفي بعدما عرفني وقادني للخارج بكلّ رفق، ثمّ سألني: من أنت يا رجل حتى يتصل وزير الداخلية بنا ويأمرنا بإخراجك من الحجر، ماذا تعمل؟
تعارف بسيط بيننا، ثمّ رجوته أن يخبرني ما الذي يحدث. أفهمني أنّ الأوامر الصادرة تقضي بإخراجي من الحجر فوراً، ولي كامل الحرية بالخروج إلى ساحة السجن أو أيّ مهجع أختاره، حتى ورود تعليمات أخرى، وأكثر من ذلك لا يعرف.
كانت الأفكار تأخذني إلى حدود اللامنطق، وألف تحليل يقودني نحو الجنون فعليا: ما هذا التغيّر المفاجئ ولماذا؟
لم يدم بقائي في ساحة السجن أكثر من ساعة، ليعود الضابط نفسه راكضاً ويطلب مني بلهاث خائف أن أصحبه إلى مكتب آمر السجن. حاولت أن أستفسر عما يحصل لكنه لم يجب أبداً.
توالت الأحداث في الساعات التالية بشكل هستيري تماماً، كانت الهواتف لا تكفّ عن الرنين، والمساعد يُدخل الكثير من البرقيات إلى آمر السجن، وهرج ومرج شديدين، والجميع يتهامسون حولي بحرص مبالغ فيه مع بعض النظرات التي ترشقني باستغراب. وفجأة دخل رجل عرفت أنه مسؤول إعلامي، سلّم على الجميع، وقال لآمر السجن إنّ وزير الإعلام يريد أن يكلّمني الآن، لكن الآمر لم يسمح له إلا بعد إجرائه اتصالات كثيرة ليتلقى في النهاية اتصالا من وزير الداخلية يأمره بأن يسمح لي بالكلام هاتفيا مع من أريد، وبالوقت والمدة التي أريد أيضاً.
كان كلام الوزير مقتضباً، وكل ما فهمته أنه لا يقبل بما حصل، وكلّ ذلك كان خطأ ارتكبه قائد الشرطة بشخصه دون أوامر من أحد، كما أنّ وزير الداخلية ووزير العدل سيعملان على تصحيح ما جرى وإخراجي في اليوم التالي، ثم أغلق السماعة.
كانت دهشتي فوق مستوى الوصف تماما، صحيح أني كنت متفائلاً وأشعر بالفرج القريب، لكن أن يسعى ثلاثة وزراء لإخراجي من سجن أعرف يقيناً أنّ المنظومة الأمنية أمرت بزجي فيه، حتى أنها لفقت لي ثلاث تهم جنائية من العيار الثقيل، فهذه معجزة لا تحصل أبداً، ويعرف كلّ سوري أنّ أعظم وزير لا يستطيع مخالفة الأوامر الأمنية الدنيا، فكيف العليا منها، إذاً ما الذي يجري يا ترى؟
انتصار شعبي واتصال القصر الجمهوري
ثم ماذا قصد الوزير بكلمة "خطأ" من قبل قائد الشرطة. قبل أن أحاول أن أطلق العنان لتفسيراتي، كان قد دخل رئيس التحرير والمدير العام وبعض المرافقين وسلّموا على آمر السجن، ثمّ تولى رئيس التحرير شرح الموقف لي، والملخص أنّ بعض الأصدقاء من الصحافيين قد نشر بمساعدة زوجتي صورة وثيقة تثبت أنّي معفى من الخدمة العسكرية، وقام أحد مراسلي وكالات الأنباء العالمية بالاتصال بديوان المحكمة وإثبات أنّي عُرضت أمام القاضي بتهمة نشر تحقيق استقصائي صحافي في جريدة رسمية، وهذا ما قلب الموازين تمامًا.
كان الهياج الشعبي على أشدّه من نظام زجّ بصحافي في السجن لأنه نشر عن فساده الموصوف من أعلى الهرم، وابتدأت القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية المعارضة للنظام السوري بنشر الخبر وإثبات كذب الافتراءات، ليضطر في النهاية إلى إيجاد كبش فداء كعادة كلّ الأنظمة الديكتاتورية، والاختيار وقع على قائد الشرطة نفسه، ليخرج ويقدّم اعتذاره علنا، وعلى موقع الجريدة التي أعمل بها، والتي أجبرت على نشر التلفيقات في اليوم السابق. ولكن نتيجة لاستعجالهم في إيقاف حملة التضامن الشرسة أخطأوا مرّة ثانية في التبرير ذاته، حيث كان التصريح ساذجاً إلى حدّ اللامعقول، فأنا لست المقصود، وإنما هناك تشابه أسماء بيني "كنان" وبين صاحب التهم الحقيقي ويدعى "خليل"، وهما اسمان لا تشابه بينهما بحرف واحد حتى.
الحرية غالية يا أبي، لكن الأجمل أن تفتح أبواب السجن المغلقة لتكون أولى خطوات حريتي بين ذراعيك
تصاعد الغليان الشعبي بشكل جنوني حتى اضطرت أعتى الصفحات الموالية للنظام، والمسمّاة بالجيش الإلكتروني السوري، للاعتراف باستحياء بأنّ ما حصل معيب تماماً، وبعضها وصف الأمر "بالمسخرة".
هنا، وحسب ما تمّ إعلامي به رسميا من قبل محافظ طرطوس، في اليومين التاليين تدخل القصر الجمهوري وصدرت الأوامر ثانية لإخراجي من السجن فورا بالإيعاز للنائب العام بتوقيع مذكرة إخلاء سبيلي في ساعتها، وهذا ما لم يكن ممكنا في مساء يوم عطلة رسمية (الجمعة).
تمّ وضعي في غرفة مرفهة تخصّ أحد الضباط مرفقة بمطبخ صغير يحوي عدّة أنواع من مشروبات الضيافة (متة، شاي، قهوة...) ومزوّدة بمكيّف هواء مع سرير جيد وأغطية نظيفة.
في البيت كانت الاتصالات تنهمر على زوجتي بشكل هستيري، من إعلاميين موالين، صحافيين معارضين، وكالات أنباء، قنوات إخبارية عربية، بينما كنت في السجن برفقة بعض المسؤولين الأمنيين لإقناعي بضرورة تنبيه زوجتي بعدم إعطاء أيّ تصريح لأيّ كان. وفي الوقت ذاته كان وزير الإعلام قد أعطى وعداً، وصرّح علناً بأنه اتفق مع وزيري العدل والداخلية على إخراجي غدا السبت، وهذا ما حصل فعلا .
الحرية غالية يا أبي، لكن الأجمل أن تفتح أبواب السجن المغلقة لتكون أولى خطوات حريتي بين ذراعيك. وبالفعل، فقد سجنت بعدها مرتين في السنتين التاليتين، تماما كما قلت لي...