ألمانيا والسوريون بعد عشرين عاماً

01 فبراير 2017
+ الخط -

"سننجز ذلك" كان شعار المرحلة التي حولت الجالية السورية في ألمانيا من رقم غير مهم إحصائياً إلى ما يتجاوز النصف مليون خلال أقل من ثلاث سنوات. "سننجز ذلك" كان يطمئن السوري بها نفسه، أصدقاءه أو عائلته أمام شواطئ الموت، وكانت أنجيلا ميركل وحزبها وقبلهما تيار عريض من الناشطين يطمئنون بها الشعب الألماني أمام موجة اللاجئين العالية.


وبالفعل أنجز الكثير من المهاجرين رحلتهم وأنجز الشعب الألماني مهمة استقبال الوافدين وتأمين احتياجاتهم الأولية حتى الآن.

ولكن؟ ماذا بعد؟ ما مصير هذه الجالية؟ وهل لها مستقبل في البلد الأوروبي ذي الاقتصاد الأقوى؟ وكيف سيكون شكلها في المستقبل، بعد عشرين عاماً كمثال؟


تجدر الإشارة إلى أن هذه الرؤية شخصية مبنية على مشاهدات و استقراءات قد تصيب أو تخطئ، وستفصل في مجالات العمل، التحصيل العلمي، والأدب والفن.

في حقل العمل- طبيب سوري ومطعم شاورما في كل شارع رئيسي:

هناك ظاهرتان سوريتان في ألمانيا لا يمكن تجاهلهما ويمكن البناء عليهما في المستقبل البعيد. الأولى هي الانتشار السريع للأطباء السوريين. فمنذ عام 2013 تزايد عدد الأطباء السوريين حديثي التخرج بشكل شديد في ألمانيا للتردي المتسارع للأوضاع في سورية، ولوجود ثغرة في العمالة الطبية في ألمانيا، وتسهيل بعض القوانين المتعلقة بتعديل شهادة التخرج للأطباء الأجانب بسبب الحاجة لسد هذه الثغرة، وتسهيل معاملة الحصول على الفيزا للأطباء السوريين. 

 كل هذا جعل عدد الأطباء السوريين المرخص لهم بالعمل في ألمانيا يرتفع حتى عام 2015 ليصل إلى 2149 وبالتالي إلى المرتبة الرابعة بين الأطباء الأجانب بعد رومانيا واليونان والنمسا (حسب مقال صادر في جريدة Frankfurter Allgemeine  بتاريخ 12.4.2016), وهناك ارتفاع مستمر لهذا العدد رغم تعقد الإجراءات الخاصة بالترخيص من جديد منذ عام 2015.

وهؤلاء حتى لو عاد منهم جزء كبير، بعد انتهاء فترة الاختصاص، يبقى منطقياً استمرار انتشار واسع لأطباء سوريين مختصين في مشافٍ وعياداتٍ بكافة المدن، والكثير من الأرياف الألمانية، إضافة إلى وصول عدد منهم لمناصب أكاديمية مرموقة.


أما الظاهرة الثانية فهي الانتشار السريع لمطاعم الوجبات السريعة السورية، المقدمة للشاورما كوجبة رئيسية، وهنا سأورد مثالاً شخصياً قد يعطي صورة كافية، في رحلة قصيرة قمت بها قبل شهر إلى مقاطعة نوردراين فيستفاليا الغربية، تناولت الطعام قبل السفر بمطعم سوري في لوبيك وعند وصولي بوخوم عُرض علي اختيار تناول الطعام عند واحد من ثلاثة مطاعم سورية في مركز المدينة، وفي كولن ودوسلدورف وبون، كان الأمر مشابهاً. الذي فاجأني هو قيامي قبل أقل من عام برحلة مشابهة ولم تكن هذه الخيارات متاحة.


التواجد المفاجئ لطلب كبير للوجبات السريعة السورية ممثلاً بالجالية الضخمة القادمة حديثاً، واعتماد مطاعم الوجبات السريعة على عمالة سورية، يكفي تكلمها بالحد الأدنى باللغة الألمانية، يجعلان من هذا المشروع خياراً مغرياً لأصحاب رؤوس الأموال الصغيرة، من القدامى أو الوافدين خصوص،اً لتوافر اليد العاملة الرخيصة من السوريين أنفسهم. أما بالنسبة للعاملين في هذه المطاعم فإن هذا العمل يمثل بديلاً سريعاً عن المتابعة في تعلم اللغة واستثمار سنوات طويلة لتعلم مهنة جديدة الأمر الذي سنفصل فيه في باب التعليم.

لكل ما تم ذكره أجد من المقبول استقراء انتشار مطاعم وجبات سريعة سورية بعد عشرين عاماً في معظم شوارع المدن الكبيرة والمتوسطة على أقل تقدير. الإيجابي في الموضوع هو تأمين هذه المشاريع مصدر رزق لأصحابها وللعاملين فيها وإغناؤها للمطبخ الألماني، الذي بدأ يعرف الشاورما والفلافل ويتقبلهما منذ الآن.

أما السلبي في أنماط العمل هذه هو عدم احترامها حقوق العمال، التي ينبغي عادة أن يتمتعوا بها في هذا البلد وعدم تأمينها لاستقرار وظيفي نظراً لطبيعتها المتقلبة. كل ذلك يجعل الطريقة الوحيدة للعامل للخروج من ظروف العمل هذه هو بدؤه بمشروعه الخاص، وتوظيف غيره بالطريقةنفسها، وهكذا.


تبقى الإشارة إلى ولادة أبواب رزق للسوريين نتيجة الهجرة، من ترجمة وسمسرة ومراكز تحويل للنقود وعمل في منظمات حكومية وغير حكومية، وأبواب الرزق هذه ستبقى بقاء المهاجرين.
أما المهن فسنتطرق لها في الباب التالي.

التعليم - العلوم الإنسانية تنافس الطب والهندسة، والاختصاصات المهنية تعاني

في سورية يعد امتحان البكالوريوس أهم وأصعب مرحلة يمر بها كل مراهق راغب في الدراسة الجامعية، فنتيجة هذا الامتحان ستحدد شكل مستقبله كطبيب أو كمهندس أو ككل ما عدا ذلك. هذا هو الواقع الذي تفرضه الرغبة بالاستقرار الاقتصادي والقبول الاجتماعي في بلد لا يدعم بل ربما يهمش ويعاقب العلوم الإنسانية بشكل مقصود.

في ألمانيا الوضع مختلف إلى حدٍ ما، فنظام التعليم متميز وشبه مجاني أيضاً للأجانب وهناك دعم لكافة الاختصاصات، ومكافأة للمتميزين ونظام منح ودعم مادي استفاد منه الطلبة السوريون بسبب وضعهم الخاص إلى الآن.

كل هذا سيفتح خيارات كثيرة للطلبة للاختيار حسب رغبتهم أولاً، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع أعداد السوريين الدارسين في اختصاصات العلوم الإنسانية في الأعوام القادمة.  وكنتيجة سيكون هناك غالباً عدد من الفلاسفة والمؤرخين وعلماء النفس والاجتماع الناجحين، يقف جنباً إلى جنب مع مقابله من المهندسين والأطباء والحرفيين والتجار بعد عشرين عاماً



ماذا عن الاختصاصات المهنية؟ 

المهن تعاني. فرغم إتاحة نظام التعليم الألماني برامج مؤهلة لأكثر من 200 مهنة، تندرج ضمن 27 حقلاً للعمل (حسب موقع الهيئة الفدرالية للعمل Bundesagentur für Arbeit)، ستكون نسبة السوريين المستفيدين من هذه البرامج في السنوات القادمة غالباً قليلة ولذلك سببان رئيسيان:

 الأول هو البيروقراطية الألمانية، التي تفرض تعلم اللغة لمرحلة متقدمة، وتدريباً لثلاث سنوات قبل السماح بممارسة المهنة. والمفارقة تكمن بعرقلة هذه الإجراءات بالدرجة الأولى لما نسميهم لدينا بشيوخ الكار، المتقدمين بالعمر والمتقنين بشكل متفرد لمهنهم.
أما السبب الثاني فهو تهرب العدد الأكبر من الشباب السوري، خصوصاً بأعمار 25-35 من البرامج المهنية التي تعرضها وتدعمها الحكومة الألمانية، والبحث عن خيارات أسرع وأسهل.

فعند التخيير بين تأهيل مهني يتطلب ثلاث سنوات من الدراسة العملية والنظرية بلغة غريبة، وبراتب هو مصروف جيب لا أكثر خلال فترة الدراسة، وبين عمل مباشر عند مشغّل عربي أو أجنبي براتب كامل فإن الجواب يبدو دائماً سهلاً. فعلى المدى القريب يبدو العمل بشكل مباشر مغرياً أكثر، خصوصاً للراغبين بالزواج والاستقرار، بينما على المدى البعيد فالصورة مغايرة تماماً.

 ففرص العمل المغرية والحاجة للعمالة المهنية وحقوق كالراتب التقاعدي والإجازات السنوية والمرضية، والقدرة على الترفع والاستقرار الوظيفي، تجعل وضع النسبة الأقل المختارة للطريق الطويل المتمثل بالتأهيل المهني بعد عشرين عاماً مستقراً أكثر ، ومحققاً أكثر للذات ومناسباً أكثر للعائلة.

الفن والأدب - الأدب سوري واللغة ألمانية:
التجارب الغنية التي عاشها عموم الشعب السوري في الأعوام السابقة، والكبت الذي كان يمارس في سورية وحرية التعبير التي تعرض لها في بلدان المهجر، تجعل توقع شكلٍ من الانفجار الأدبي السوري في تلك البلدان أمراً منطقياُ.
 هناك فرصة كبيرة أمام كل من لديه القدرة والرغبة بالكتابة في بلد مثل ألمانيا، فالشعب الألماني يعد من الشعوب القارئة، وهناك حماية حقيقية لحقوق الملكية وملاحقة لكل من يتعداها. لذلك من المنطقي صعود أسماء كثيرة في الأعوام العشرين القادمة لكتاب سوريين كاتبين باللغة الألمانية، سيكون معظمهم من القادمين بأعمار تتراوح بين ال 15-25 المتمكنين لصغر عمرهم من إتقان اللغة الألمانية، والمختزنين لحجم كبير من التجارب السورية.
الأمر مشابه في المجالات الفنية والإبداعية فهناك منح وفرص حقيقية للمواهب في ألمانيا، وهناك جيل سوري كامل في ألمانيا (الأعمار بين 10-15) سيدرس المسرح والرسم والنحت في المدرسة، وستتاح له فرص الدخول إلى أعرق المدارس الفنية في أوروبا.

لمَ من المهم التكلم عن مستقبل للسوريين في ألمانيا وعدم التغني بالعودة وانتظار حينها؟
إن وجود جالية سورية في بلدان العالم الأول عموماً، وفي ألمانيا خصوصاً، ليس بالضرورة إدارة للظهر للوطن السوري بل هو أمر ضروري جداً، خصوصاً خلال العقدين القادمين. فالانهيار المتسارع للاقتصاد السوري وطول فترة إعادة الإعمار التي ستعقب انتهاء العمليات العسكرية واستقرار البلد غير منظور الأمد، ناهيك عن صعوبة استقراء شكل الكائن الجغرافي والديمغرافي والسياسي الجديد في ما كان سورية، سيبقي اقتصاد البلد معتمداً إلى حد كبيرٍ على الحوالات النقدية المرسلة إلى الداخل من أقاربٍ عاملين في بلدان المهجر.

كما أن الضغط السياسي والضغط الناتج عن احتكاك الجالية السورية بالمجتمعات الغربي،ة التي تمسك حكوماتها بجزء من القرار الدولي، ساهم ويساهم في إبقاء القضية السورية حية نوعاً ما.

أضف إلى ذلك أن الفائدة الأكبر لوجود جالية سورية في بلدان المهجر، وخصوصاً في ألمانيا، هو تمتع جزء كبير من هذه الجاليات بحد أدنى من الأمن والاستقرار في معزل عن الحرب. الأمر الذي يعطيها الفرصة لإعادة البناء وتطوير الكفاءات والتأقلم والعمل الفعال في المجتمع الجديد، إلى حين عودة قد يطول أوانها أو يقصر.

فإذا تحقق أحد السيناريوهات الأكثر تفاؤلاً وتشكلت ظروف في سورية تسمح بعودة جماعية كريمة إليها، ستضم  كتلة بشرية متسعة الأفق متنوعة الكفاءات والخبرات، مستنشقة لحريات ومقتنعة بأهمية القانون.

إن عودة كتلة بشرية كهذه ستشكل لبنة أقوى وأكثر تماسكاً في أساسات أي بناء جديد لسورية مهما كان شكله. أما عن قدرة الجالية السورية في ألمانيا على تشكيل كتلة كهذه رغم التحديات الكثيرة في المغترب، فلا نملك إلا أن نحاول طمأنة أنفسنا بقول "سننجز ذلك".

7BD4C013-56C4-4BD2-8ABC-2E18D8D92060
عبد الرافع مشوح

طبيب سوري مقيم في ألمانيا، مهتم بالأدب والفلسفة ومتابع للقضايا الإنسانية والسياسية المتعلقة بالمصير السوري.