خريف العرب

22 يونيو 2017
+ الخط -



نشأ ما يمكن تسميته نظاماً عربياً في حقبة التحرّر الوطني مع مطلع الخمسينيات. في ذلك الوقت، أخذت السياسات الخارجية للأنظمة العربية المستقلّة حديثاً، تتلاقى وتتقاطع، فتتكتل أو تتقابل في محاور ومعسكرات يقود كلاً منها بلد قوي. لم يكن ذلك بالطبع ممكناً قبل ذاك الوقت، أي عندما كانت بلاد العرب خاضعة للاستعمار، لكل منها متروبوله المرجعي، ولكل متروبول مصالحه، ولم يكن قد تبلور لها بعدُ نظام سياسي؛ له هوية وذاكرة وطنية.

كان الواقع الجديد يجد أساسه في القومية العربية التي اتخذتها القوى السياسية العربية آنذاك منطلقاً وغاية. لم تكن القومية آنذاك افتراضاً رومانسياً تبرّر به السلطة نفسها، كما آلت إليه لاحقاً؛ بل كانت مشروع تحديث وتحرّر، آمنت به الجماهير قبل مثقفيها. وكانت الأفكار والمبادئ ترى في احتلال فلسطين واقعها المرير الذي يؤكّد وحدة المصير، وتجد في تحريرها قضيتها التي تؤكّد حتمية النضال.

هكذا، انتظمت الأنظمة العربية في معسكرين، أحدهما وصف بالتقدمي قادته مصر الناصرية، وآخر وصف بالرجعي تحمل الملكية السعودية لواءه. منذ ذلك الوقت، لم تتوقف لعبة المحاور، وكان التاريخ يصدّق نظرية نديم البيطار عن الإقليم-القاعدة الذي بقوته تتحقق الوحدة القومية.

صدّقه التاريخ عندما كانت مصرُ الناصرية هي ذلك الإقليم المقصود. فلما رحل عبد الناصر، وزهدت مصر السادات في إرثه، تنازع الأتباع الإرث. حاوله عراق صدام، وسورية الأسد، وجزائر بومدين، وليبيا القذافي. ولما لم يقوَ عليه منهم أحد، عاد التاريخ فصدّق البيطار، وإن بطريقة عكسية، عندما اشترت السعودية القيادة أخيراً بمال النفط، بعد أن أخضعت هؤلاء جميعاً واحداً تلو الآخر، بالمال تارة، وبالقصف الأميركي أخرى.

كانت القيادة سابقاً تبشيراً بالوحدة، فقالت الجديدة: ليلزم كلّ منّا "حدوده"، ولنتداول المال، فهو كل شيء. وكانت السابقة تزعم أن الحرية هي الغاية، فقالت الجديدة: بل الثراء. وكانت السابقة تعلن التزامها بطرد العدو الرابض في قلب البيت، فأعلنت الجديدة التزامها بتقنين إقامته.

إذ ذاك، كانت العروبة تزوي كإرث مبغوض. في الثقافة، هي سرديّة تخفي الحقيقة، فعلينا أن نفكك المتخيّل لنمسك بالواقعيّ. وفكّكناه فلم نجد إلا عدمية الطائفية. وفي الاقتصاد، هي فقر أكيد، إذ إن فاتورة النضال باهظة. وتوقف النضال، لكن لم يذهب الفقر! وفي السياسة، هي سلطة جائرة، فعلينا أن ندفع السلطة. ولم نعرف أن السلطة هي إما لنا أو لغيرنا، فلئن زهدنا في سلطة ننتزعها لنتحرّر بها من الجور والتبعية، فغيرنا لا يزهد في سلطة يظلمنا بها ويستعبدنا.

زوت العروبة حقاً في الخطابة والكتابة، لكنّها ظلت تحيا خفية، أو جلية، في وقائع الجيوسياسة، وفي مال النفط المتداول باسم الأخوة ثمناً لقيادة مسروقة، يدفع رِشىً مقنعة تارة، وكضريبة مبتزّة من جيب الشيخ الخليجي تارة أخرى. وظلّت حية كذلك في فلسطين التي لم تعرف قضيتها حلاً رغم التنازلات ومشاريع التسوية. ثم عادت العروبة بوجهها سافرة، بجميلها وقبيحها، عشية الثورات العربية.

اليوم، نشهد تدشين محور جديد يصل بخط مستقيم «يقطع» الخريطة، بين الرياض وأبو ظبي. لدى ذلك المحور مشروع محدد، هو تثبيت دعائم السلطات الموناركية، وإبادة، ليس مشاريع التحرر المناهضة لتلك السلطات فحسب، بل أي أساس تاريخي يمكن أن تنطلق منه.

"ترسيخ الموناركية" بدأ من الخليج بتسمية محمد بن سلمان حاكماً للسعودية، بلا تدخل من العائلة الحاكمة، فضلاً عن سائر الأعيان، ولا داعي لذكر الشعب. الأمر نفسه واقع في الإمارات، ومطلوب من قطر أن تكون ضمن هذا المشروع. أما في البلدان غير الملكية، فأنظمة عسكرية فقيرة سياسياً واقتصادياً، يحكمها عسكري قليل المواهب، بلا رقابة، هي النظير الجمهوري للموناركية الملكية. السيسي في مصر، وحفتر في ليبيا، وأحمد علي صالح في اليمن، والبشير أو عثمان طه في السودان، ولعل اسماً آخر جديداً نسمع به قريباً في سورية، هي النماذج المطلوبة.

أما مشروع التحرر، فلا يكفي فيه فحسب إبادة من بقوا أحياء من مناضليه، بل يجب تجفيف منابعه. تصفية القضية الفلسطينية والالتزام العربي ضد إسرائيل، تجريد الإسلام من قواه التحرّريّة، تجريف المجتمع قيمياً واقتصادياً بسياسات اقتصادية تستهدف إفقار الشعب أو إلهاءه، وتجريد المجتمع من قوى الإنتاج والتنمية. وأخيراً، محاصرة الأنظمة التي قد تعطّل أياً من ذلك.

ما هو مفزع في محور أبو ظبي ــ الرياض، غير عدميته الراديكالية بالطبع، هو أنه قد لا يجد منافساً. فمصر، قد تمّ تجريفها ربما بدرجة لم تحدث في تاريخها بأسره. وقطر مضروب عليها حصار من دول خليجية. الإسلاميون أيضاً قد تمّت إبادتهم سياسياً، وصفّق الجميع في لحظة جنونية. سبيل الخروج الوحيد الذي ليس أمامنا إلا أن ننتظره أو نشيّده، هو مشروع سلطة مناوئ، وتحديداً في مصر التي ينتظر صحوتها.

محمود هدهود
محمود هدهود
كاتب وباحث مصري في الفكر والفلسفة الإسلامية