السيسي يقود ثورة التصحيح!

21 أكتوبر 2019
+ الخط -
مع كل خطاب جديد يلقيه عبد الفتاح السيسي، يتبدى حرصه على استكمال ثورة التصحيح التي بدأ في قيادتها مؤخراً ضد ثورة يناير، وضد ما التصق منها بجسد الدولة المصرية لظروف قهرية تغيرت والحمد لله، ولذلك وجب أن يتم التخلص مما تبقى من سيرة ثورة يناير، التي كان السيسي يصفها بالعظيمة في بداية حكمه، ثم بدأ بعدها بفترة يقول بما معناه إنها كانت ثورة عظيمة إلا ربع، وأن هناك من ركبوا عليها من المغرضين والمتآمرين، وقرروا أن يحرفوها لمصالحهم، ثم بعد أن اندلعت المظاهرات المحدودة التي أعقبت بيع جزيرتي تيران وصنافير وما صاحبها من اتهامات للسيسي بالخيانة وبيع الأرض والعرض، بدأ السيسي يتجنب في خطاباته إطلاق أي أوصاف إيجابية بحق ثورة يناير إن جاءت سيرتها في مناسبة ما، ليكتفي أحياناً بالقول إن بعض المتظاهرين الذين شاركوا فيها كان لديه نوايا طيبة، لكنهم لم يكونوا يدركون أنهم يدمرون بلادهم بالتظاهر، في تحذير مستتر لكل السذج والحمقى الذين يشاورون عقولهم بالنزول إلى الشارع.

مع تصاعد الغضب الشعبي المرتبط بتدهور الحالة المعيشية، تحول التحذير المستتر من تكرار ما جرى في يناير إلى تحذير صريح، وأصبحت سيرة يناير لا تأتي على لسان السيسي إلا مرتبطة بالتآمر والرغبة في هدم الدولة، لتصل ثورة التصحيح السيساوية إلى ذروة جديدة، بعد ما جرى من مظاهرات أعقبت ظهور فيديوهات المقاول محمد علي الكاشفة لفضائح القصور والمشروعات المليارية، حيث لم يعد السيسي يكلف نفسه عناء إطلاق تسمية لما جرى في 2011 بأنه ثورة أو أحداث أو الذي منه، بل أصبح يطلق عليها "اللي حصل في 2011"، وحين قرر مؤخراً التنصل من مسئوليته عما جرى من إخفاق مريع في إدارة أزمة سد النهضة مع أثيوبيا، قرر السيسي أن يلصق التهمة بما جرى في 2011، ثم عاد في لقائه الجماهيري الأخير لمزيد من التصعيد ضد ثورة يناير، واصفاً حالة مصر في "ظل اللي حصل في يناير 2011" بأنها "كشفت ضهرها وعرّت كتفها"، وهو توصيف لا يخطر إلا على بال نشال وضيع الخيال، يهوى الالتصاق غير البرئ بركاب وراكبات أتوبيس عباسية ـ كفر الجبل.

في اعتقادي أن ما يقوم به السيسي من تصحيح لمسار حكمه بالقطيعة الكاملة مع ثورة يناير، هو تصحيح مهم وضروري وتأخر أكثر من اللازم، وأتمنى أن يساعد الكثيرين ممن شاركوا في ثورة يناير، على ألا يظلوا عالقين في ذكرى يناير، لأننا بحاجة إلى ألا نخلط بين حرصنا على إحياء ذكرى يناير وتدبر معانيها، وبين الوقوع أسرى لما ارتبط بها من ملابسات وتفاصيل، وأظن أن تجاوز حالة يناير 2011 هو شرط لازم لاستعادة معنى الثورة التي لم تقم ضد نظام بعينه ولا حاكم بشخصه، بل قامت ضد أوضاع إجرامية وسياسات قاتلة، أصبحت الآن أشد إجراماً وأكثر قتلاً، ولذلك ستستوجب حتماً ويوماً ما ردود أفعال أشد مما حدث في يناير 2011.

حين كنت أنا وغيري نقول ذلك في نهاية 2013 وما تلاها، كنا نتهم بالبلاهة والسفاهة والانفصال عن الواقع، وها هي أحداث هذا العام التي جرت في السودان والأردن والجزائر والعراق ولبنان، تثبت وهم قدرة الأجهزة الأمنية على السيطرة الكاملة على الشارع، لأن بقاء الأوضاع المسببة للغضب، سيتسبب في الانفجار تلو الآخر، حتى تكف العصابات الحاكمة للدول العربية عن المراوغة واللوع والاستعباط على شعوبها، وتتخلى عن سياسة فرض الأمر الواقع بقوة السلاح، وتتخلى في الوقت نفسه عن وهم الحل النهائي، لتبدأ في تقديم تنازلات حقيقية تقوم بتهدئة شعوبها، ولا نقول في إجراء إصلاحات حقيقية توقف تدهور أوضاع شعوبها، لأن التجارب المريرة علمتنا أن مثل ذلك الأمل المشروع سيصطدم بحقائق بيولوجية من بينها أن "ذيل الكلب ما ينعدل ولو علقوا فيه قالب"، وأنك يجب دائماً أن تتوقع "الرفس من البغل النجس".

من ناحية أخرى، لا أظن أنه يمكن الوصول إلى توصيف أكثر وضاعة لما جرى في يناير 2011 من ذلك التوصيف المنحط الذي أطلقه السيسي، لكنني أظن أنه لن يكتفي به، وأنه سيواصل المزيد من صب غضبه على ثورة يناير في الفترة القادمة، فالسيسي يحتاج إلى ذلك بشدة، حيث لم يعد من المنطقي أن يستخدم شماعة الإخوان في تبرير كل ما يجري من كوارث وإخفاقات، لأن ذلك يعني إعلاناً لفشله في القضاء التام على الجماعة التي لا يكف عن إذلال المصريين بأنه قام بإنقاذهم منها، لذلك يمكن له أن يترك استخدام شماعة الإخوان لأذرعه الإعلامية في قنواته التي لم يعد يشاهدها أحد، لأن جمهورها المدمن لما تقدمه، ليس معنياً بالتوقف عند التناقضات، ولذلك مثلاً لم يلفت انتباهه طيلة السنوات الماضية وجود تناقض يسد عين الشمس بين الحديث الزاعق عن المؤامرة العالمية التي تقودها الدول الكبرى ضد مصر لتقزيمها وتقسيمها، والحديث المتفشخر عن انبهار حكومات تلك الدول بالقيادة المصرية ومسارعتها إلى بيع المزيد من صفقات الأسلحة لها.   

بالطبع، انشغال السيسي بثورة يناير 2011 إلى هذا الحد، وبعد كل هذه السنين من تشويهها وتخوين المشاركين فيها والافتراء عليهم والتنكيل بهم، يدل على خواء بائس وتفاهة مرعبة، لأن أغلب من لا يزالون خارج السجون ممن شاركوا في يناير، لم يعودوا منشغلين بها بقدر انشغال السيسي بها، فما يشغلهم أكثر الآن هو النجاة من الخوازيق التي تنصبها لهم أجهزة السيسي في كل مكان وزمان، وقد بدا ذلك جلياً في موقفهم من الدعوات التي وجهها المقاول محمد علي للتظاهر، والتي ثبت أن أغلب من استجاب لها لم يكن لديهم أي نشاط سياسي واضح أو معروف قبل الاشتراك في المظاهرات، ومع ذلك لم يتوقف ضباطه عن التنكيل بكثير من الأسماء المعروفة التي شاركت في ثورة يناير، من باب الاحتياط والانتقام معاً، وكان يمكن للسيسي أن يكتفي بذلك التنكيل بكل ما يحدثه من آثار مدمرة، لكن لجوءه لمهاجمة ثورة يناير والإفراط في استخدامها كشماعة يعلق عليها فشله، يدل على خيبة ثقيلة، لن يستطيع إخفاء معالمها برغم كل ما يمارسه من بطش وكل ما يدعيه من سيطرة.

ولو كان حول السيسي مستبدون أذكياء ولصوص عقلاء يخافون على مصالحهم حقاً، لنصحوه بأن الإفراط في استخدام شماعة يناير سيأتي بنتيجة عكسية، مثلما يأتي الإفراط في استخدام الإفيه أو المؤثر البصري بنتيجة عكسية على من أحبوا استخدامه مرة أو مرتين أو ثلاثاً، ولنصحوه أن يبحث منذ الآن عن شماعة ثانية غير "اللي حصل في 2011" لأنها إذا نفعته في التملص من خيبته في أزمة سد النهضة، لن تنفعه في تبرير النزيف المستمر في سيناء، والتصاعد المرعب في حجم القروض والديون، والانخفاض المريع في مستويات المعيشة، ولن تأكل مع الناس ببصلة كمبرر لانهيار التعليم والصحة والاقتصاد والطرق والمواصلات والبحث العلمي والثقافة والرياضة والعيشة واللي عايشينها.

صحيح أن غياب أي رشادة سياسية عن نظام السيسي ستكون له آثار شديدة الخطورة على مصر والمصريين، وأن حدوث التغيير لن يكون أمراً سهلاً أو مأمون العواقب في ظل سلطة مجنونة ومنفلتة، لكن مثل ذلك الجنون والانفلات هو الذي يجعل معركة التغيير في مصر حقيقية وجلية، ويمنع تمييعها وتزييفها، بمثل ما جرى بعد يناير 2011، حين كان هناك اضطرار لا يمكن تجاوزه إلى تلبيس الطواقي واتباع سياسة "حاوريني يا كيكة"، لأنه لم يكن بمقدور أي طرف في مصر أن يتحمل المسئولية السياسية عن البلاد بمفرده، وحتى حين أطاح الجيش بالإخوان، اضطر إلى الاستمرار في تلبيس الطواقي لمن شاركوه في الإطاحة بهم على اختلاف نواياهم وعلى اختلاف تصوراتهم لكيفية التعامل مع الإخوان بعد الإطاحة بهم، ومن هنا جاءت فكرة التمسح بثورة يناير والحديث الإيجابي عنها خصوصاً في العامين الأولين من حكم السيسي.

الآن، لم يعد السيسي مضطراً للتمسح بثورة يناير، بعد أن أعلن انفراده بحكم البلاد هو وقلة من المقربين منه، في سابقة لم تحدث حتى في عهد عبد الناصر، ولذلك أصبح عليه أن يتحمل مع تلك القلة نتائج ما قام بتطبيقه من سياسات واتخاذه من قرارات، خاصة أن خوفه المستمر الذي يلازمه كقاتل، تسبب في تقليص مدى وإضعاف قوة التحالفات التي عقدها عقب لحظة التفويض، والتي طرحته كممثل لتحالف مصالح بين مؤسسات الجيش والشرطة والقضاء، مع دعم قوي من رجال الأعمال المسيطرين على الإعلام، وهو ما لم يعد موجوداً بعد رغبته المستمرة والمتواصلة في التكويش على كل شيئ، وهو ما يقوي من نفوذه ظاهرياً، لكنه في الوقت نفسه يسهل من إمكانية الإطاحة به، مع أي انفجارة شعبية غاضبة، سيحاول نظام السيسي تأخيرها بكل ما أوتي من قوة، لكنه لن يستطيع منعها بالكامل، إلا إذا بدأ في تحقيق ما طلبه ملايين المصريين في 2011: "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".

والله أعلم.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.