أبعد من "فرانكفورت": الثقافة العربية في مواجهة الإخراس الأوروبي

18 أكتوبر 2023
لوحة للفنانة هبة زقوت التي استشهدت مع طفلها الجمعة الماضي أثناء قصف الاحتلال لغزة
+ الخط -

ليست هذه هي المرة الأولى التي تقف فيها الثقافة العربية في مأزق مواجهة الأوروبي الأبيض؛ مع أن هذا ليس زمان الحروب الصليبية، كما أننا لسنا في نهايات القرن الثامن عشر حيث جيوش الاستعمار تغنّي "لامارسييز"، وهي تعدنا بالحريّة والعدالة والمساواة على وقع دانات المدافع. لكن مرور القرون مع رتوش المجاملات الدبلوماسية لم تغيّر من حقيقة الأمر شيئاً، والذي جرى من معرض فرانكفورت للكتاب بمنع تكريم الروائية الفلسطينية عدنية شبلي - على خلفية القتل الجاري في فلسطين - يقول الشيء نفسه، لكن الإقصاء هذه المرة يتحقق والرجل الأبيض يرتدي قفازاً أبيض، يحاول به أن يداري برك الدم التي تقوم بإسالتها ربيبته دولة الاحتلال الإسرائيلي.

هو تحدّ كبير تواجهه الثقافة العربية، لأن الإلغاء والإقصاء الذي يمارسه الطرف الأوروبي بحقها لم يكن سافراً إلى هذا الحد كما في هذه الأوقات. وهو ما يجعلنا مواجهين بأسئلة ثقافية ربما تتخطى جدل المشاركة في معرض فرانكفورت للكتاب من عدمه، لأن الخلاف هذه اللحظة ليس حول حيادية تمارسها أوروبا فتغضّ الطرف عن مجازر إبادة ترتكب الآن بحق الشعب الفلسطيني، وإنما حول إسكات صوت المقتول/الشهيد الفلسطيني، ومن خلفه ثقافته العربية برمتها.

الصوت الأعلى أوروبيا هذه المرّة جاء من ألمانيا، بدعم سافر لممارسات دولة الاحتلال الإسرائيلي، وإسكات أي صوت يدعم القضية الفلسطينية، فظهر العلم الإسرائيلي مضاءً على بوابة براندنبرغ ببرلين، وأعلنت الحكومة الألمانية دعمها الكامل لدولة الاحتلال الإسرائيلي و"حقها في الدفاع عن نفسها"، ثم خاتمة المطاف مع إلغاء الاحتفاء بالكاتبة الفلسطينية، بل والادعاء أن ذلك تم بالتنسيق معها.

الإلغاء الذي يمارسه الأوروبيون لم يكن سافراً كما هو الآن
 

أمام كل هذا الإخراس المتعمد للصوت العربي، ما الذي بوسع ممثلي الثقافة العربية أن يفعلوه؟ هل تكون مقاطعة معرض فرانكفورت للكتاب حلاً ناجزاً كما أعلنت ذلك جهات عربية عدة - نحمد لها موقفها – وهي اتحاد الناشرين العرب، واتحاد الناشرين المصريين، واتحاد الناشرين الإماراتيين، وهيئة الشارقة للكتاب؟ هل يحتاج الأمر هذه المرة لما هو أكبر من المقاطعة؟ ثم ماذا عن الجهات التي قررت المشاركة بالفعل كجائزة الشيخ زايد للكتاب، وبعض الناشرين العرب؟ 

في الإجابة عن هذه الأسئلة، تقول الناشرة المصرية كرم يوسف، صاحبة "الكتب خان" في حديثها إلى "العربي الجديد"، إنها بالتأكيد مع المقاطعة، وتضيف بحماس وهي توضح موقفها: "من المفترض أن معرض فرانكفورت في جزء منه هو ملتقى لإبرام اتفاقيات وعقود للترجمة المتبادلة، تحت مظلة التبشير الأوروبي ببناء الجسور الثقافية والتواصل والتفاهم مع الآخر بعيداً عن السياسة، ثم يكون هذا هو موقف إدارة المعرض مع عدنية شبلي!".

لا تخفي مديرة "الكتب خان" غضبها إزاء ما يجري فتقول: "لا بد أن ندرك (ونحن ندرك بالفعل) كيف يرانا الأوروبيون. هذا الجزء من العالم، عالمنا وحضارتنا، لا ينظرون إليه إلا باعتبارنا "حيوانات بشرية". تضيف أنه في السابق ربما كانت ردود الأفعال الأوروبية أكثر مداراة ومناورة، لكن الوضع الآن أكثر سفوراً، ويتضح الأمر أكثر بالمقارنة مع ردود الفعل الأوروبية إزاء الاعتداء الروسي على أوكرانيا. 

هل يحتاج الأمر هذه المرة لما هو أكبر من المقاطعة؟
 

تنشط كرم يوسف في مجموعة إلكترونية من 500 ناشر دولي تحت مسمى "ناشرون بلا حدود"، وتقول إنه أثناء الاعتداء الروسي على أوكرانيا تحوّلت رسائل المجموعة الالكترونية إلى "مناحة" بشأن الجرائم الروسية، لكن المجموعة الآن يسودها صمت تام إزاء ما ترتكبه دولة الاحتلال الإسرائيلي بشأن الفلسطينيين. تضيف "تكتشف أن من يُفترض بهم الوعي بما يجري يقفون في نهاية الأمر مع الرائج".

وتتهكم يوسف ساخرة على من ينوي المشاركة بالمعرض من الناشرين العرب، في دعواهم تقديم وجهة النظر العربية، قائلة: "وجهة نظرنا واضحة وتشرح نفسها، لكن أوروبا اختارت أن تتعامى عنها لتقف بجانب من يرتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، كتلك التي حدثت مع اليهود في الهولوكوست".

ما تقوله يوسف يتفق مع ما جاء في خطاب اتحاد الناشرين العرب، الذي وُجّه عبر رئيسه محمد رشاد في 14 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إلى الرئيس والمدير التنفيذي لمعرض فرانكفورت للكتاب يورغن بوس، والذي قال فيه: "إن اتحاد الناشرين العرب يعرب عن أسفه العميق لموقفكم المنحاز وغير العادل تجاه الأحداث المأساوية التي تشهدها المنطقة، حيث يعيش الشعب الفلسطيني تحت أطول احتلال في التاريخ الحديث، وهو الاحتلال الذي تحوّل إلى نظام الفصل العنصري الذي يمارس أقصى الضغوط ويجعل من غزة سجنا مفتوحا لأكثر من 2.2 مليون شخص ...".

يقول رشاد في حديثه لـ "العربي الجديد" إن اتحاد الناشرين العرب يضم 18 اتحاداً إقليمياً أعلنت كلها مقاطعة معرض فرانكفورت للكتاب، ويضيف "أرسلنا لاتحاد الناشرين الدولي ولعدد من هيئات النشر الأوروبية خطابات نوضح فيها وجهة نظرنا وما يحدث في غزة من قتل ممنهج لأشقائنا الفلسطينيين"، لكن رشاد – وهو صاحب الدار المصرية اللبنانية – يعود فيجيب عن سؤال إن كانت هناك خطوات تصعيدية أُخرى يمكن اتخاذها، خصوصا أمام ما يبدو أنه إقصاء متعمد لوجهة النظر الفلسطينية والعربية، قائلاً: "المعرض له فترة محددة تمتد من 18 حتى 22 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، والرد الأسرع تمثّل في قرار المقاطعة". 

بحسب الناشر المصري فإن قرار الاتحاد ليس ملزماً للناشرين الأفراد، وبعض هؤلاء من الناشرين المصريين قرروا الذهاب بالفعل لمعرض فرانكفورت بنية إبرام عقود للترجمة المتبادلة. تواصلت "العربي الجديد" مع أحد هؤلاء الناشرين، لكنه اعتذر بالقول إنه ليس لديه ما يضيفه بشأن هذا الموضوع. في المقابل تقول الناشرة المصرية كرم يوسف والتي ذهبت من قبل لمعرض فرانكفورت أكثر من مرة: "لماذا لا نستغني عن هذه المنح الأوروبية للترجمة، وننظر في اتجاه الشرق مثلا. لنترجم من آداب آسيا، على الأقل هناك تفاعلات حضارية وطيدة وقديمة بيننا وبينهم".

إسكات صوت الضحية ومن خلفه ثقافته العربية برمتها
 

يمكن إذا أن تتمثل أُولى الخطوات التصعيدية في إلغاء عقود الترجمة مع الناشرين الألمان ممن يتبنون وجهة النظر الصهيونية، ويتفقون مع موقف حكومتهم تجاه هذا الصراع، خصوصاً أنهم كما تقول يوسف: "لا ينظرون إلينا، ولا يهتمون بترجمة أعمالنا إلا فيما ندر".

إلى هذا فإننا لا نعدم تحركات فردية أُخرى، وهذه المرّة من الكتّاب، إذ كان مرتقباً أن تشارك الشاعرة المصرية فاطمة قنديل بليلتي عرض في مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة بالقاهرة، المدعوم من "الاتحاد الأوروبي"، بعنوان "أقفاص فارغة"، وهو عمل مبني على روايتها الأحدث، ومن إخراج الفرنسي هنري جول جوليان، لكن قنديل أعلنت عبر صفحتها في موقع فيسبوك انسحابها من المشاركة المقرر لها 4 و5 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، قائلة: "لن أسمح لنفسي ولا لشِعري أن يكونا ستاراً للاتحاد الأوروبي الذي يدعم جرائم إبادة الشعب الفلسطيني، بل يدعم جرائم الحروب التي ترتكب على أرضنا بدم بارد". 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون