أن تمتلكَ خيالاً!

12 أكتوبر 2023
ناجي العلي الذي سبق وتخيّل المشهد قبل أن تطأ الأرضَ الأقدام
+ الخط -

لا أعتقد أنّي الوحيد الذي ظلّ يكرّر مشاهدة مقاطع الفيديو التي أطلقت عملية "طوفان الأقصى"، من دون أن يستوعب إن كان ما يراه عملية اقتحام حقيقية تقوم بها المقاومة الفلسطينية لأحد المواقع العسكرية الإسرائيلية، أم لقطات من فيلم سينمائي؛ نظراً إلى النجاح السريع في تنفيذ العملية، وسهولة الفتك بالأعداء وأسرهم، التي لا تليق إلّا بأبطالٍ من عالم آخر. 

كان المشهد الأكثر جموحاً بالنسبة لي هو ذلك الهبوط المظلّي الثنائي، وإطلاق النار الذي بدأ قبل أن تطأ الأقدام الأرض، والذي تبيّن أنّ الفنان الشهيد ناجي العلي (1936 - 1987)، سبق إلى تجسيده في أكثر من لوحة كاريكاتورية تخيّل فيها مثل هذا المشهد. ربما كانت تلك اللوحات تبعث على الابتسام المُر والتمنّي في زمن رسمها. أمّا معادلُها الواقعي الذي حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فهو مدعاة فرح وتفكُّر بلا شك.

على سيرة الفرح، لا بُدَّ أنَّ الكاتب الشهيد غسان كنفاني (1936 - 1973)، في طليعة الفرحين في هذه الأيام، وهو يرى من عليائه أنّ هناك من دقّ جدرن الخزّان أخيراً. ليست الدبّابة التي تسلّقها المقاومون واقتلعوا من اختبأ فيها من جنود الاحتلال إلّا خزّاناً للقتل، صبّ خلال سنوات طويلة حمم حقده على بيوت المدنيين وحياتهم، قبل أن يأتي من يُسقط على رأس هذا الحيوان الذليل الزاحف قنبلة صغيرة من ذبابة إلكترونية في الأعلى، تُشعل فيه النار وتحوّله إلى قبر معدني.

أين الواقع وأين الخيال إذاً؟ لا يفصل بينهما إلا براعة التنفيذ

أمّا حضور الحفل الموسيقي الذين سهروا حتّى الصباح عند حدود قطاع غزة، المُقدَّر عددهم بالمئات، والذين ظهر عددٌ منهم وهم يجرون نحو المجهول في قطعة صحراء، فهروبهم المرعوب هذا ليس إلا تيهاً ثانياً في الصحراء، تيهاً لم يتسبّب به لهم اضطهاد الآخرين، بل اضطهادهم للآخرين من دون أن يحسبوا حساباً للصرخة التي ظلّ المقتول يكبتها إلى أن فجّرها أخيراً حتى مزّقت أذن العالم. إنّه التيه ذاته الذي أرادوا إنزاله بأبناء الشعب الفلسطيني، بعد محاولتهم إيقاد محرقة لمن اختار البقاء في أرضه، هم الذين يجيدون تلبّس هيئة الضحية ولعب دور الجلّاد.

في كتابه "في الأدب الصهيوني"، يبحث غسان كنفاني في دور الروايات في التأسيس للتفوّق الصهيوني على بقية الشعوب، وخاصّة الشعب العربي، وفي التأريخ لنشوء "إسرائيل" وأسطرة كل ما يتعلّق بها، في دعاية أيديولوجية مفضوحة وبعيدة عن الأدب كل البعد، وهو الأمر الأول الذي يهتمّ كنفاني بتفنيده وفضحه. كثيراً ما يسخر الواقع من الخيال، إذ إنّه يبدو كنسخة صعبة التخيّل منه. لكن، ألم يبدأ كلّ ما شاهدناه صبيحة السبت بقصة عمّا سيجري، حكاها قائد سبق أن تخيّلها وخطط لها؟ أين الواقع وأين الخيال إذاً؟ أليسا نسختين من الشيء ذاته، لا يفصل بينهما إلا براعة التنفيذ؟


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون