"الفيلوسامية" في زمن الإبادة.. كيف "نفهم" الخبل الألماني؟

30 ديسمبر 2023
من مظاهرة في برلين تضامناً مع الشعب الفلسطيني، 10 كانون الأوّل/ ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

لم أتعرّف في البداية، إلى الأشخاص المُمَدَّدين على الأرض في مطار اللّد المحتل، الذي غُيِّر اسمه إلى مطار بن غوريون من قبل الصهاينة عام 1973. كانوا ينتظرون انتهاء الخطر الذي تحمله صواريخ المقاومة النازلة على رؤوسهم من سماءٍ أيقنوا طويلًا أنّهم تحتها آمنون، وأنَّ حتّى أقوى القدرات البشريّة لن تستطيع خرقها، لكنَّها اخترقت.

كان ينام على الأرض مذعوراً مع الوفد المرافق له، المستشار الألماني أولاف شولتس، ببذلةٍ سوداء ووجهٍ يكاد يحشره في الأرض كي ينجو من موتٍ يدور في الأفق. السؤال الذي خطر في ذهني حينها: ما الذي حمله على المجيء في ظلِّ هذه الحرب المستعرة؟ وماذا يريد أن يثبت؟

بعده نزلَ في ذات المطار، رئيس الوزراء البريطاني من أصل هندي، ريشي سوناك، بطائرةٍ عسكريَّةٍ، ليلتقي نتنياهو، محاولًا التودَّد إليه وتقبيله مراراً، في علاماتٍ بدت واضحة على الصهيوني الذي لم يكن يودّ الاقتراب من سوناك أكثر من اللازم. تلاه رؤساء ووزراء دول غربيّة، يناصرون الكيان الصهيوني ويعلنون تأييدهم لعمليّاته ضد الشعب الفلسطيني ووقوفهم ضدَّه بملء الفم.

في كتابه "صنع معاداة السامية أو تحريم نقد إسرائيل"، الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" (2022)، يشير الكاتب اليهودي إبراهام ملتسر إلى جانبٍ قد يساعدنا في فهم التوجّه الغربي، والألماني تحديداً، نحو "إسرائيل". إذ يشير إلى أنّ مسألة "معاداة السامية"، تشكّل الهاجس الأكبر لدى الغربيّين.

فـ"إسرائيل"، بما هي عليه منذ عقود، غير قابلة للنقد، ولا يمكن توجيه أيّ لومٍ أو تُهمةٍ لها، ومجرّد فعل ذلك، يوصم الشخص بوصمة "معاداة السامية". وقد حاول الجيل الألماني الجديد، بعد الحرب العالمية الثانية، وما تلاها، تبرئة نفسه من هذه الوصمة، محاولاً إثبات أنَّه جيل ليبرالي وديمقراطي وداعي سلام بفرضه قوانين تحظر كراهية اليهود ومعاداتهم. هكذا صار الأغلب منه يفهم، وحتّى الوقت الحاضر، أن رفض "إسرائيل" ونقدها يعني "معاداة السامية" التي يلهج بها الغرب على الدوام، والتي بدورها أصبحت تهمةً جاهزةً لأيِّ لومٍ يوجَّه لها.

على أثر التغيير في الأجيال ورغبة التحرّر من وزر التاريخ، شهدت ألمانيا موجةً من "الفيلوسامية"(Philosemitismus)، التي تعني إظهار الحبّ والتعاطف والمودّة لليهود. إلّا أنّ هذه المودّة، بحسب أبراهام ملتسر، ليست مودّة خالصة. فحبّ الألمان لليهود يأتي من حبّهم لأنفسهم. فهم يعتقدون، بما أنَّهم لم يعادوا يهوديّاً أو يقتلوه كما فعل أسلافهم، فهُم جيّدون، وهذا يدفعهم إلى حبّ أنفسهم، وبالتالي حبّ اليهود والتعاطف معهم حتّى لو كانوا على خطأ.

كأنّ جرائم الاحتلال الصهيوني تمارين في الإنسانيّة!
 

هذه السذاجة في المحبّة بلغت ذروتها حين أعلنت ولاية ساكسونيا أنهالت شرقيّ ألمانيا عدم منح جنسيَّتها إلّا لمن يعترف بـ"إسرائيل"، لتكون ألمانيا أوّل دولة تُدخل تعديلاتٍ على قوانينها الداخليّة، بعد السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، تضامناً مع الكيان، ولتقمع بذلك العديد من وقفات التضامن مع الفلسطينيين الذين يتعرضون للإبادة من قِبَل "إسرائيل".

هذه المبالغة المفرطة في محاولة إثبات الولاء أو تأكيد أحقية الكيان المحتلّ في وجوده ودفاعه عن نفسه يمقتها اليهود أنفسهم، أي المتحرّرون من هيمنة الصهيونية عليهم. فكما يقول ملتسر نفسه: "إنَّ الكثير من اليهود يحتقرون هذه النزّعة المُفرطة من الفيلوسامية، وإنَّ من غير الممكن أن تنشأ علاقة طبيعية ومريحة مع ألمانيا، التي لا تزال تحمل وزر الهولوكوست كغيمةٍ سوداء في تاريخها".

أضف إلى أنّ محبّة اليهود تعني محبّة الصهاينة، فهذه لازمة لا يمكن فصلها، لأنَّ الألمان بحسب ملتسر، لا يرون في اليهود سوى ضحايا لا حول لهم، ولا يمكن للمرء أن يكون سيّئاً تجاههم. وهذا هو سبب الادعاءات المتكرّرة في ألمانيا بأنَّ "إسرائيل" ليست عدوانية، بل تدافع ببساطةٍ عن نفسها، وهو ما يفرِضُ عليهم محبَّتها ودعمها، ولكن ماذا عن مشاعرهم نحو العرب والفلسطينيين؟

تأتي علاقة الغرب مع العرب والفلسطينيين على وجه التحديد، بناءً على علاقة الكيان الصهيوني معهم. فهم بحكم الحال، تابعون لما يشعر به الصهاينة ولما يقرِّرونه. من هنا، يسأل ملتسر سؤالاً مفاده: "هل يحمل الإسرائيليون أحكاماً مسبقةً متحيّزةً، أو لديهم مشاعر استياءٍ ضد العرب؟ ويجيب: نعم بالتأكيد، لدى الإسرائيليين أحكام متحيّزةً مسبقة على العرب، بل وأكثر من ذلك، تتملكهم مشاعر احتقار ضدّهم. إنَّ الإسرائيليين لا يكرهون العرب فحسب، بل يحتقرونهم، الأمر الذي يسمح لهم، نظراً إلى مصيرهم والمقولات التي تتناول موتهم، بعدم الشعور بالذنب تجاههم".

وبالنتيجة، فإنَّ الأنظمة الغربيّة، ونسبة كبيرة من مواطنيها، يشعرون بالذنب جراء مقتل صهيونيٍّ واحد، ويُبرِّرون جرائم "إسرائيل" بحق الكيان في "الدفاع" عن نفسه. في حين أنَّ هذا الذنب يتحوّل إلى حسنةٍ حين يقصف الصهاينة آلافاً من الغزيِّين، ويُشرِّدون آخرين، لأنَّ المقاومة إرهاب، والاحتلال الصهيوني وممارساته تمارين في الإنسانيّة!


* شاعر من العراق

المساهمون