غادرتُ إسطنبول، وأنا أسمع وأُردِّد اسم جمال باشا مثل أيِّ شخص آخر. وبعد عبور مدينة أضنة أصبح الاسمُ مزدوجاً: جمال باشا الكبير، وجمال باشا الصغير. كان الصغيرُ قائد فرقة. بعد عبور حلب، اختَلف نُطْقُ "باشا"، من الباء الثقيلة إلى الخفيفة، كما صارت كلمة "جمال باشا"، التي كانت تُقال بحُرِّية، مثل "أحمد بك"، نوعاً من الامتياز، وشيئاً يُظهِر مدى قُرب الشخص منه.
كان الذهابُ إلى مقرِّ قيادة الجيش الرابع، خاصّة بعد دمشق، يُشعر بالدُّوار كتسلُّق المَعبد: هناك جوٌّ من الرُّعب. واسمُ جمال يُشبِه الاسم المقدَّس المأخوذ من التوراة والإنجيل. تلاشت لديَّ صورةُ جمال باشا التي اعتدتُ عليها في سيركجي، وفي المدرسة العسكرية، وهو فخور بنفسه بعض الشيء ولكنّه ما زال لطيفاً، وحلَّت مكانَها صورةُ رجلٍ آخر بخطوط مُجَعَّدة سأتعرّف عليه من جديد. كان المقرُّ الرئيسي في القدس، في "دار الضيافة الألمانية"، على قمّة جبل الزيتون. عندما وصلتُ إلى المدينة، لم يكن لديَّ سوى رُبْعَين من الفضَّة. إذا لم أبدأ العيش في المقرّ على الفور، فلن أتمكَّن من العودة أو البقاء في الفندق.
قلتُ للحوذيّ:
- "إلى مقرّ جمال باشا".
فتح السائق عينَيه قائلاً:
- "هل تقصد جمال باشا؟".
شرحتُ ذلك بالإشارة إلى جبل الزيتون، ثم قال:
- "تفضّلْ".
التفتَ جمال باشا إليّ وقال: "هنا، يجبُ أن أكون هكذا"
عندما قال ذلك، شعرتُ أنّ الخيول أيضاً تَغيَّر وضعُها.
كان مقرُّ "دار الضيافة الألمانية" نظيفاً وكبيراً، تشعر أمامه بالتضاؤل! أيّ شخص، سواء أكان ضابطاً أم عسكرياً، يمشي على أطراف أصابعه، وأحياناً تمرُّ الممرِّضات عبر الرُّدهة الواسعة، وهُنَّ يُطلِلْنَ برؤوسهنَّ على غُرف النوم والموائد.
ذهبتُ إلى مساعد القائد. كان هناك حشدٌ كبير في غُرفته، من الأربعين إلى السبعين، يرتدون زيَّ الأعيان، وبعضُهم مُعَمَّم وآخرون بدون عمائم. نظر المُساعد إلى ملابسي التي تُشبه ملابس الضابط، وسأل:
- "من أنتَ، وماذا تريد؟".
- "أنا فالح رفقي الذي طلبه الباشا القائد من القيادة العامة".
دخل المُساعِد الغرفة، ثم قال لي: "تفضّلْ".
ماذا سأفعل، وإلى أين سأذهب، وكيف أجدُ جمال باشا، كنتُ في مِحنةٍ لا يُمكن شرُحها.
كانت غرفة كبيرة: نهْرُ الأردنّ على اليسار، ومدينة القدس على اليمين. في المقدّمة كانت مبانٍ وحدائق رُوسية، تُسمّى موسكوفيا. كان جمال باشا بين النوافذ المُطلَّة على النهر والمباني الرُّوسية، مشغولاً بتوقيع الأوراق وظهرُه لنا. استطعنا فقط رؤية جُزء من وجهه الصارم المُلتحِي. إلى جانبي، ثلاثةُ ضبّاط آخرين يضعون دفاتر الملاحظات تحت إبطهم. فجأةً، أدار رأسه، وتخطَّاني بعينيه إلى الضابط الثاني، وقال ببرُود:
- "أخبِرِ المساعد أن يستدعي أعيان نابلس".
تكدَّس بعضُهم فوق بعض، وكأنهم يخرجون إلى الحياة
كان من الغريب أنْ يدخُل هذا الحشد من الباب. هُم على عتبة باب الرَّجل الذي يستطيع أن يقرّر الحياة والموت بكلمة واحدة. وقفوا لفترةٍ أمام الباب ثم دخل بعضُهم الغرفة بعد أن أنهَوا الدُّعاء، والذين لم يُكملوا دعاءهم، كان الآخرون يدفعونهم من الخَلف.
اصطفَّ عشرون شخصاً تقريباً أمام النوافذ المُطلَّة على مدينة القدس. لم ينظُر القائد إلى الوراء. كان يقفُ على كلِّ ورقة يوقِّعُها، وأحياناً يُعطي بعض الأوامر، ويسأل أسئلة قصيرة، مثل:
- "ما هذا؟".
- "لا أريد إجابة من هذا القبيل".
- "خُذ هذا إلى رئيس الأركان".
مع مرور الوقت، أدركتُ سبب اصفرار وجوه سكان نابلس.
كلُّ صوت جديد من جمال باشا، كان يهزُّ عمائمهم ولحاهم وثيابهم.
لا أعرف كم من الوقت استغرق هذا المشهد. أغلقَ القائد دفتر الملاحظات، وأمسكَ بجانبي كُرسيّه، واستدار باتجاه أعيان نابلس ثم سأل بأسلوب قياديّ:
- "هل تعرفون مدى خطورة جرائم القتل التي ارتكبتُم ضدَّ دولتكم؟".
قالوا، وبعضُهم يحرِّك يديه والبعض الآخر عنقه:
- "أستغفر الله…".
- "أستعيذ بالله".
سمعتُ مثل هذه الكلمات منهم.
نظرة واحدة من القائد قطعت هذه التمتمات، ثم صرخ جمال باشا قائلاً: "اخرسوا!"، وتابع:
- "هل تعرفون ما هي عقوبة جرائم القتل هذه؟".
تغيَّر لونُ أهل نابلس إلى لون المشنوقين، وضاقت شفاهُهُم.
قال القائد:
- "الإعدام. لكنِ ادعُوا الله لرحمة الدولة العثمانية. سنكتفي في الوقت الحالي بإرسالكم أنتم وعائلاتكم إلى المنفى في الأناضول".
بدأوا جميعاً في رفْعِ أيديهم بالدُّعاء والشُّكر وكأنّهم يسجدون، ولم يكُن هناك حدٌّ لامتنان وُجهاء نابلس بقرار اقتلاعهم من جُذورهم.
قال القائد:
- "يُمكنكم الذهاب".
تكدَّس بعضُهم فوق بعض وهم يخرجون، كأنّهم يخرجون إلى الحياة. انتهى الدَّور. أرسل الضبَّاط، ثم التفتَ جمال باشا إليَّ بابتسامته القديمة، وقال:
- "ماذا أفعل؟ يجب أن أكون هكذا هنا".
ثم سألني عن أخبار إسطنبول.
(* صْلٌ من كتاب "جبل الزيتون" مذكرات فالح رفقي أطاي سكرتير جمال باشا المشهور بالسَّفاح، يصدر قريباً بترجمة أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، عن دار "الرافدين".