غوادالوبي غراندي.. الشاعرة مغادرةً أسئلتها

غوادالوبي غراندي.. الشاعرة مغادرةً أسئلتها

02 فبراير 2021
غوادالوبي غراندي تقرأ من مراسلات الشاعر ميغيل هيرناندث في ذكرى رحيله في سجون فرانكو (2020)
+ الخط -

لم يمهل الزمنُ غوادالوبي غراندي لتكتب صفحات شعر أخرى. لكنّ عبورها السريع في هذا العالم لم يكن من دون أثر، إذ كانت قصيدتها، بحقّ، صدىً لحياتها التي لم تطُلْ، ولقلق ذاتها المرهفة، شديدة الحساسية تجاه المظالم والمآسي التي تمارس سطوتها على كل إنسان مقهور. الشاعرة التي عاشت الشعر نبعا فيّاضاً، يوماً بيومٍ، في بيت أبويها، الشاعر فيليكس غراندي (1937-2014)، والشاعرة فرانسيسكا أغيري (1930-2019)، عجّلت بتلويحتها الأخيرة لتجيب نداء الرحيل. رحلت غوادالوبي غراندي (1965-2021) قبل أيام في مدريد، عن سن الخامسة والخمسين، بعد أن عايشت الشعر وعاشته.

شقّت غوادالوبي طريقها بين شعراء جيلها بقصائد متفرّدة لا تجترّ تجارب السابقين. عاشت ثِقَل الكتابة، بين العزلة والألم. ثم رحلت في مدريدها الحزينة، المشتاقة للمكاشفات والمؤانسات في زمن الجائحة. مع رحيلها يُغلق كتاب النسَب الشعري والأُسَري لوالدها، شاعر الجيل الخمسيني والعالِم العارف بفن الفلامنكو، ولوالدتها التي رحلت قبلها بسنة ونيف.

كانت غوادالوبي الابنة الوحيدة في بيت مفتوح على القول الشعري وعلى عالم الفلامنكو والغناء؛ مكان عرف مسامرات أهل الفن والثقافة، ومرّ منه العديد من الأصدقاء الشعراء والأدباء والفنانين. مكان يحتفي باللغة والكلمات والاستعارات، عرفت غوادالوبي كيف تجمع فيه صوتها وكلماتها ولغة فرادتها الخاصة. لقد كان الشعر في هذا البيت التحدّيَ الأكبر والأصعب، في ظلّ قامتين شاهقتين كان لكليهما مسار عميق في تاريخ القصيدة المعاصرة في إسبانيا (فيليكس غراندي حائز "الجائزة الوطنية للشعر" سنة 1978، و"الجائزة الوطنية للآداب الإسبانية" سنة 2004، وفرانسيسكا أغيري حائزة على "الجائزة الوطنية للشعر" سنة 2011 وعلى "الجائزة الوطنية للآداب الإسبانية" سنة 2018).

اعتبرت أنّ ما تجتازه الإنسانية في يومنا هذا مرحلةَ انغلاق

بسبب ثِقَل النسب والاسم الذي تحمله، حاولت في قصائدها أن تكون يقين ذاتها ووجوده، رغم اعترافها بوقوعها في سحر قصائد أبويها. كما حافظت، منذ خطواتها الأولى في الكتابة، على مسافة أمان من تجارب شعراء كانت تصاحب تجاربهم كقارئة عارفة بأسرار القصيدة. في إحدى الحوارات معها، صرّحت بالقول: "جزء من حياتي أن أعيش من أجل القصيدة وأن أعيش باتجاه القصيدة، وجزء من الكتابة أن أعثر في القصيدة على ما لا أستطيع التفكير فيه بأي طريقة أخرى غير كتابة الشعر".

بدأت غوادالوبي رحلة الشعر مبكراً، ونالت في عام 1995 "جائزة رفائيل ألبيرتي للشعر" عن ديوانها الأول "كتاب ليليت". ثم أتبعته بثلاثة دواوين: "مفتاح الضباب" (2003)، "خريطة من شمع" (2006)، "فندق للقنافذ" (2010). تضاف إليها قصائدها الشعرية الأخيرة، التي جمعتها على الأقل في عملين شعريين يُنتظَر أن يتم نشرهما. تعكس قصائد غوادالوبي الأخيرة قلقها تجاه الحاضر. إنها تأملات فكر منشغلة بأسئلة الوجود العميقة، مع بعض الومضات اللاعقلانية. شِعرها كان يعكس دائماً طمأنينة يؤججها السؤال المحيّر، أو يعكس لا طمأنينة السؤال، فهي تبحث وتسأل وتنبش وتعثر وتتعثر، وتقتسم الألم والحزن، وتساهم في صياغة أسئلة لا تجيب عنها، لأنها تفضل أن تظل الجذوة مشتعلة والجرح نازفاً مفتوحاً، لتتمكن من إعادة صياغة السؤال من جديد.

وهي في ذلك سليلةُ أسرة لها جذور عميقة في المعاناة، بدءاً من مِحن الديكتاتورية الفرنكوية التي عاشها أجدادُها، سواء من جهة الأب أو جهة الأم. ولذلك كان الوفاء لمبادئ الوعي الإنساني، اليساري، عنوان وجهتها. وهذا ينعكس أيضاً على خياراتها جمالياً وأخلاقياً وإنسانياً، في مجال الدراسات النقدية. وما كتاباتها عن سيزار باييخو وكونشا مينديث ولويس روساليس وكارلوس إدموندو دي أوري وخوان رولفو وليدو إيفو إلا دليلاً على ذلك.

لقد اعتبرت غودالوبي هذه المرحلة التاريخية الصعبة التي تجتازها الإنسانية مرحلةَ انغلاق؛ إنه زمن ضيق وفاسد، نظراً لهيمنة قوى الشر: "أظن أن هناك مراحل انفتاح يكون من الممكن فيها الاحتفال، وثمة مراحل يصعب فيها التفكير بفعل ذلك. أظن أن الخطر الذي نجتازه اليوم يكمن في كوننا غير واعين بأننا نجتاز زمناً لا أحد فيه يقوم بواجبه".

المساهمون