هنري لورنس: في تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب

20 سبتمبر 2022
هنري لورنس متحدّثاً خلال المحاضرة (معهد الدوحة)
+ الخط -

منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، قدّم المؤرّخ الفرنسي هنري لورنس (1954) العديد من الدراسات التي اهتّمت بتاريخ المنطقة العربية، والتي تنوّعت بين مواضيع مثل بدايات الاستشراق، وسياسات الاستعمار الغربي في المنطقة، وحملة نابليون على مصر وسورية، إضافة إلى كتاباته المهمّة حول القضية الفلسطينية، وفي مقدّمتها عملُه المرجعيّ "سؤال فلسطين".

أمس الإثنين، افتتح لورنس العام الأكاديمي 2022-2023 لـ"معهد الدوحة للدراسات العليا"، بمحاضرة ألقاها تحت عنوان "الاستشراق والاستغراب: خمسة قرون من التاريخ"، وأدارها رئيس المعهد بالوكالة، الباحث عبد الوهاب الأفندي؛ محاضرة أراد فيها تقديم تحليل تاريخي للعلاقة بين الشرق والغرب، أو بين الشرق وأوروبا، لِما في مصطلح "غرب" من ضبابية وهشاشة تاريخية، بحسب المؤلّف الذي يُشير إلى ولادة المفهوم في القرن التاسع عشر فقط، وارتباطه بفترة الحرب الباردة.

استهلّ أستاذُ كرسي "تاريخ العالم العربي المعاصر" في "كولّج دو فرانس" محاضرته بتعريف الاستشراق بأنه البحث عن المعرفة حول ما عُرف بـ"مجتمعات العالم القديم"، وهو فضاءٌ واسع يضمّ حضارات بلاد الشام والمتوسّط وشمال أفريقيا والساحل الإفريقي وصولاً إلى بحر اليابان، موضحاً أن هذا المدى الجغرافي لطالما كان فضاءً للتواصل، وقد سمح بانبثاق الأفكار والأدبيات، إضافة إلى كونه مكاناً تاريخياً للتبادل التجاري.

وقال إنه حتى فترة الاكتشافات الأوروبية الكبرى وولادة إمبراطوريات ما وراء البحار في القرن السادس عشر، لم يعرف الأوروبيون جيرانهم المسلمين، مضيفًا أنّ المسلمين كانت لديهم معرفة جيوسياسية تم استسقاؤها من العثمانيين، كما أنهم عرفوا أوروبا من الكتب ومن السفراء العثمانيين. 

وأفاد صاحب "المشرق العربي: العروبة والإسلاموية من 1798 حتى 1945" بوجود مرحلة من التوازن حتى القرن الثامن عشر في العلاقة بين الشرق وأوروبا، حيث كانت هناك علاقات تجارية وسياسية على أساس الندية بين الأوروبيين والامبراطوريات القديمة (في الصين والهند واليابان وإيران والدولة العثمانية)، وذلك بسبب التقارب في الأوزان الاقتصادية والعسكرية. ثم بدأت العلاقة بالتغيّر في منتصف القرن الثامن عشر بفعل الثورة الصناعية والحملات الاستعمارية التي أنتجت نوعاً مختلفاً من المعرفة يُبرز التفوق الأوروبي، وخلقت حركة هيمنة أدت إلى فصل أوروبا عن العالم، لافتاً إلى أن المفكرين الأوروبيين اعتبروا أن أوروبا هي مستقبل الإنسانية.

وأشار إلى التغيّر الذي ستعرفه السرديات الأوروبية حول الشرق بدءاً من منتصف القرن الثامن العشر، حيث كان المؤرّخون ينظرون إلى المنطقة، حتى ذلك الوقت، بعين المساواة مع الحضارة الغربية، لكنّ الأمور ستتغيّر مع ولادة فكرة التقدّم، بوصفها تقدّماً من الماضي باتجاه المستقبل، حيث سيُنظَر إلى الشرق باعتباره من الماضي، وموئلاً لحضارات قديمة، بينما تمثّل أوروبا الحاضر والنظرة إلى المستقبل؛ وهو ما يسمح، في الخطاب الغربي، بإنتاج المعادلة التالية: إذا ما كان الشرق ماضياً بالنسبة إلى أوروبا، فإن أوروبا هي مستقبل الشرق.

لكنّ من مفارقات هذا الخطاب الاستشراقي، كما يضيف لورنس، هو أنه أعطى المجتمعات الشرقية أدواتٍ للصمود في وجه أوروبا ومقاومتها، وذلك من خلال دراسة المستشرقين لمجتمعات المنطقة ومجتمعات العالم القديم، ما يمنح شعوب المنطقة مفاتيحَ حول حضارتهم المتجذّرة.

ولمقاومة الهيمنة الأجنبية، أوضح المحاضِر أن المشرق استشعر في هذه المرحلة ضرورة تبنّي الحداثة الغربية حتى يستطيع مقاومتها، معتبراً أن العولمة تستكمل هذا المسار، من خلال عملها على إزالة الخلافات بين الثقافات، لكنّ هذا لا يمنع وجود صراعات الهوية بين المجتمعات أو داخلها، بحسبه.

يُذكَر أن هذه المحاضرة في "معهد الدوحة" تأتي قبل أيام من محاضرة أُخرى يلقيها لورنس في "المعهد الفرنسي" بالقاهرة، عند السابعة من مساء الثلاثاء المقبل (27 أيلول/سبتمبر)، ويتحدّث فيها حول كتابه "التاريخ المفروض"، الصادر هذا العام، والذي يبحث فيه مسألة كتابة التاريخ، ولا سيما كتابته من قِبَل الغرب، إضافة إلى معالجته لمسائل مثل العلاقة بين المعرفة والسلطة، ودور المؤرّخ في المجتمع.

المساهمون