وبلا حارسٍ أعيش

وبلا حارسٍ أعيش

26 مارس 2022
ضياء العزّاوي، 1966
+ الخط -

1

يَغمُرُني التِّيهُ فلا أدري من أيِّ فقاعةٍ أَتَنفَّسُ مَلامِحَ الوصول
وتُطارِدُني أشباحُ أساطيرَ وأنبياءَ لم يسمع بهم أحد.

لست وحدي على أرضٍ موعودةٍ بزهرةٍ بلا أشواكَ في آخر الزمان
لست وحدي الذي أنتظر وصول الغائب الذي ربّما ضيّعته القطارات
أو حَرَفتْ مسارَه حصاةٌ أو قنبلة
لستُ وحدي، أنا أمَّة من التائهين.

يغمرني ضياعٌ وأسمع طوفان الأسى قادمًا
كأنَّ كلَّ دعوات الصالحين على الظالمين أخطأت طريقها
فوقعت على رأسي.


2

أنا المنسوبُ إلى ديارٍ خبيئةٍ في قواميس الخسران والخيبة
أنا المذكور في تقاويمِ أُمَمٍ ضلّت طريقها إلى الينبوع
فصار عليها أن تبتكر الماء، أو تلاحق خيالاته
أنا الناجي الأخير من بندقيَّةٍ غصّت بالبارود
وظلّت تسعل، بعيدًا عن رأسي، دماءُ قتلاها.

بغير الذي كتبوه في صحيفتي
ثم قالوا: خُذِ الطريقَ ولا تلتفت،
بماذا أجيء؟
أتنفع نياشين الفارس المهزوم؟
صورتُه وهو يركض مخذولًا من ضريحٍ إلى ضريح،
يداه وهو يجدّف على أبوابٍ أمواجها حنّةً
ومِزَقًا ولُهاثَ مرضى وممسوسين
زيقهُ وهو يشقَه بلا معجزةٍ إلى نصفين 
كي تعبر المصيبة...
بماذا؟
أتنفعُ سيرته المكتوبةُ على جبين الحرب والخرائب؟


3

مَشيتُ بأرضٍ قالوا مُقدَّرٌ عليه أن يمشيَ فيها
مقدرٌ عليه أن يسمعَ، ويُطيع، ويصمت.
مشيتُ وعلى كتفي تعويذةٌ 
أتخيَّلها بندقّيةَ الإمام الغريبِ حين استَلَفَتْها منهُ أُمّي وشَرِبْتُ من شريعةٍ لم تزل في ركودها تحترقُ خيامٌ وتركضُ طفلةٌ ويصهلُ جنديٌ مخذولٌ وظمآن.

نمت بقبرٍ وتغطَّيتُ بسعفةٍ وحلمتُ بالجوشنِ يَقرَأُ نفسَه على رأسي.

رأيت غيمةً شاردةً من صلاةٍ وعربةٍ هابطةٍ تحملُ أولياءَ لا أعرفهم ولا أدري لِمَن جاءوا.

إنَّني بأرضٍ كلَّما تلفَّتُّ صفعني خَدَمُكَ وقالوا لا تجرؤ
كلّما تثاءبتُ قالوا عنده شيطانٌ يفلّي شعره لينام
وكلّما سهوتُ رفسوني بحوافرَ مُستعارةٍ من ملائكةٍ عُميان.

قالوا رأيناك تمشي 
فقلت سأظلُّ
قالوا إلى غرفةٍ مغلقةٍ
وخنقًا
ستموت بالغاز.


4

كأنّي عثرتُ صدفةً على هذه المدينةِ
فصرتُ موكولًا بخرابها.

كأنَّهم رأوني أستلُّ من روحي المناديلَ لأمسَحَ سُخامها
وأغزُلَ من عمرٍ مهدورٍ مئزرًا لأساها المفضوح
ثم قالوا دعوه،
عسى أن يُوكَل بكلٍّ خراب الوجود.

كأنّي أرعى كلَّ المغضوب عليهم
فالخِنجَرُ الذي قُتل بهِ الأبُ الأوَّلُ في خَصري
والحوتُ الذي ابتلع أخًا لي عالقٌ في حوض البيت
والذئبُ الذي مزَّق قميصًا خاطته أمٌ ضريرةٌ،
هناك، تُلاعبه الريح على الحبل في الخارج
والحجارةُ التي شجَّت رأس الإمام أخَبِّئها خلف ظهري.

لكنَّني في الحقيقة لستُ سوى حارسٍ فارغ اليدين
أحرس أسايَ، وأسى المدينة
واللصوصُ هناك، يمرحون
في فراديس بعيدة.


5

ألمَحُكَ أيُّها العُشب وأنتَ تنامُ مبكِّرًا
حين تُمسِّد ظهركَ الريحُ
فترتخي وتميل على الجهة الأُخرى.

أسمعُ عُواءكِ في الليلِ أيَّتُها الأشجار
إذ تهدِّدين العاصفةَ بينما تقتربُ في الحقلِ 
كأنَّك أرملةٌ وحيدة
والثمار أبناءٌ يتامى.

أسمَعُكَ أيُّها العُواء الذي
يصلني ممزوجًا بِقرْقعةِ الأواني التّالفة
ورعشةِ الثيابِ الملقاةِ على حبل الغسيل.

ألمحُ ابتسامتكِ الموحشة 
أيَّتُها الفزّاعةُ
إذ تتَّسعُ في الصاعقة
وتقترب كلّما ومضَ البرق.

أسمع ذبابةً تَطنُّ الآنَ في أُذني
ولا أستطيعُ هشَّها
كأنّي ذبيحةٌ متروكةٌ في مكانٍ جافّ
رأسي إلى الأسفل
والعالم في الأعلى
ودمي ببطءٍ في البقعة الحمراء
يرنُّ.


6

بالنهر الذي غَسَلْتِ به وجهكِ فجرًا
فَصاحَبَتْه الرعشةُ 
وهو يغادر صوبَ الجنوب
وفي انقباضةَ موجِهِ انعكاسُ صورتكِ.

بالضفيرةِ،
مقروءةٌ عليها أناشيدٌ وتعاويذ وأغنيات،
بها، معقودةً بوترٍ من ربابةٍ حزينة.

بثوبكِ المذكور في أديان الغابةِ ومذاهِبِ الحقول
بالجرّة التي تظلُّ ظمأى على كتفكِ حتى تشربي منها
بالّذين يرونَكِ في الصباح
فتخضرُّ فيهم الحسناتُ وترفعُ أغصانها
بالذين انشغلوا بِمِشيَتِكِ الوئيدة
فجرحوا أصابعهم وخضّبوا العُشبَ بالبسملة.

اذكريني لأنَّني ناءٍ
أقيمُ بين صخرتين في القفار،
وادْعي لمكروبٍ 
لأنَّ بين يديكِ ترنُّ مفاتيح الجنان
وخلفَكِ القناديلُ والطينُ وصورةُ الإمامِ القتيل
يردِّدون:
آمين.


7

كنتُ أعوِّذُ القريةَ بالنَّهرِ كُلَّما شحبَ وجهُها
وصارت تجاعيدُها وشيكةً
وأُبخِّرُ البيادرَ بالصّلَواتِ التي تخنقُ سكرَتها
فتتثاءبُ طويلًا 
فيما تُفَرقِعُ في المِشعَلِ وجوهٌ شرّيرةٌ تَطلُعُ من النارِ ثم تصير رمادًا.

كنتُ الحارسَ الذي شهدَ انطفاءَ الفانوسِ في غرفةِ الفتاة التي كَتَبَت بالحنّاءِ على كفّيها أغنيةً، 
ولفَّتهُما بالخِرقةِ البيضاء ونامت،
الحارسَ الذي رأى الملائكةَ تَسنُدُ جرّة الماء متروكةً على السطح تبردُ ببطءٍ 
فيما أرادت أن تَنزَلِقَ على رأسِ الطفلِ المتوهّج بالحمّى
كنت الحارسَ الذي يأمَنُ لظلِّه الصاعدِ على الشجرةِ وبندقيَّتِهِ الطويلةِ يتامى ووحيداتٌ، وفقراءُ يمرحُ في أمعائهم خواءٌ 
ويهطلُ على أكتفِاهم غبارُ جوعٍ من سقفِ أحلامٍ منهوبة. 
 
كانت بندُقيَّتي غُصنَ زيتون
وبيتي أينما ينبُت العُشب
لهذا
أحرس القريةَ
وبلا حارسٍ أعيش
كأنَّني مبعوثٌ لكلِّ هذا الليل
فيما الفجر عالقٌ في بئرٍ مهجورةٍ على التلّ.


* شاعر من العراق

نصوص
التحديثات الحية

المساهمون