مغنّيات إيران.. نشوة المقام

18 مايو 2014
بانتيا ألفانديبور في عرض "ما يُفرح النفْس"
+ الخط -
 
ضمن "مهرجان الخيال" الذي تنظمه "دار ثقافات العالم" في باريس، احتضنت صالة المحاضرات في متحف اللوفر مساء أمس واليوم حفلتين موسيقيتين للمغنيتين الإيرانيتين بانتيا ألفانديبور ومايدي طبطباي نيا اللتين قدمتا عرضاً يخطف الأنفاس.

ولا عجب في التفاعل الحار الذي شهدته هاتان الحفلتان. فإلى جانب فتنة المغنتين صوتاً وحضوراً، تعرّف الجمهور الباريسي الذي احتشد بورعٍ في الصالة إلى نوع موسيقي لم يألفه من قبل، هو فن المقام الإيراني.

وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن إيران شكّلت منذ قرون طويلة بوتقة رئيسية لفن المقام. لكن يجب انتظار منتصف القرن التاسع عشر كي تأخذ الموسيقى الإيرانية الشكل والمواصفات التي نعرفها اليوم. ففي تلك الفترة، انفتح الإيرانيون على الحداثة وأسّسوا أكاديميات في مختلف ميادين المعرفة، بما فيها الميادين الفنية، وأعادوا النظر بعمق في نظرية المقام الفارسي.

وفي هذا السياق، أعيد تنظيم ما يُعرف بالـ"رديف"، أي مدوّنة الألحان الأساسية، وفقاً لنظام مقامي جديد، نظام الـ"داستاغ" (الأنماط الرئيسية) والـ"الآفاز" (الانماط المتفرّعة)، بينما تم إثراء ريبرتوار التنويعات الاستطرادية بتمهيدات وفواصل جديدة، مثل الـ"بيش درآمد" أو الـ"جهار مضراب". أما الغناء فأخذ أهمية لم يكن يملكها من قبل وقاد إلى تجدّد شعري مثير.

وآنذاك، كان دور العازفات والمغنيات محصوراً داخل حلقات نسائية مغلقة. ويجب انتظار عام 1924 كي تطل أول مغنية على جمهور مفتوح، هي قمر الملوك وزيري التي منحها أداؤها ومهاراتها الصوتية لقب "ملكة الموسيقى الفارسية"، وتركت بعد وفاتها عام 1959 أثراً لا يمحى في ذاكرة الإيرانيين.

ومع أن ثورة 1979 ثبّتت الموسيقى الكلاسيكية الإيرانية إلى واحتبست الفنانات من جديد داخل حلقات التعليم والعزف المغلقة ومنعتهن من إحياء حفلات موسيقية في أماكن عامة؛ إلا أنهن طوّرن فنّهن بعناد وتناقلنه جيلاً بعد جيل، كما تشهد على ذلك حفلتا بانتيا ألفانديبور ومايدي  طبطباي نيا.

الحفلة الاولى التي أحيتها ألفانديبور برفقة فرقة "دلغوشا" الموسيقية خُصّصت لمقطوعات تعود إلى العصر الذهبي من الحقبة القاجارية (منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين). ومع أن الألحان التي عُزفت كانت خاضعة ومثبّتة وفقاً لتقليد الـ"رديف"، لكن تنظيمها على شكل تنويعات استطرادية غنائية وعزفية، وخيار القصائد التي أنشدتها المغنية (تعود إلى حافظ وسعدي وإلى شعراء معاصرين أيضاً)، والترتيبات والأداءات العزفية التي تترك فسحة كبيرة للارتجال؛ جميع هذه الأمور كانت متروكة لحرّية الموسيقيين، وخصوصاً قائد الفرقة سياماك جهانكيري.

لكن أكثر ما فتننا في هذه الحفلة هو المقاطع التي رافقت فيها آلة موسيقية واحدة، الناي أو التار(العود الفارسي)، صوت المغنية، ما سمح لهذه الأخيرة بالإنشاد على هواها وبوضع رقة صوتها وتعدّد نبراته وزخرفاته في خدمة القصيدة المنشَدة.

بانتيا ألفانديبور من مواليد طهران 1975، تعلّمت العزف على السنطور منذ الطفولة، قبل أن تتعلم الغناء في الثالثة عشرة على يد لطفلي سيلاني، لتتدرّب في سن السابعة عشرة على ريبرتوار الـ"رديف"، وفقاً لتقليد مدرسة "أستاد دافامي"، قرب المعلّم نصرالله ناصح بور. بعد ذلك، كرّست ثماني سنوات لإحياء أسلوب غناء قمر الملوك وزيري.

أما الحفلة الثانية فكشفت لنا كل التفنن الذي يميّز غناء مدرسة أصفهان، من خلال قطع موسيقية للموسيقار جهانكيري أدّتها مايدي طبطباي نيا برفقة فرقة "دلغوشا". قطع فريدة لكن ضمن القوانين التقليدية، ما أثبت أن الاستمرارية في التقاليد لا تحد من المخيلة والإبداع، وبالتالي فإن القطيعة مع التقاليد ليست السبيل الحصري إلى الحداثة أو المعاصَرة.

وُلدت مايدي طبطباي نيا عام 1980 في مدينة أصفهان الشهيرة بفنانيها وشعرائها وثقافتها الموسيقية. والدها ناصر وعمّها رضا تتلمذا على يد الموسيقار تاج أصفهاني الذي يُعتبر أحد أبرز وجوه مدرسة الغناء الأصفهاني. أما هي فتابعت دراستها تحت إشراف علي جهاندار قبل أن تتلمذ على يد الموسيقار الشهير محمد رضا شجريان. وتعيش حالياً في أصفهان حيث تعلّم أسلوب شجريان إلى أكثر من مئتي تلميذ.

يبقى عازف الناي والمؤلف سياماك جهانكيري الذي وُلد عام 1971 في مدينة شالوس وتتلمذ على يد عازف العود عبد النقي أفشار نيا قبل أن يحصّل ماجستير في علم الموسيقى من كلية الفنون الجميلة في طهران (1996). وأثناء تحضيره أطروحة دكتوراه في الموسيقى، درس الناي على يد محمد علي كياني نجاد. ومنذ تلك الفترة، يعمل بشكل منتظم مع موسيقيين كبار مثل كيحان كلهر وهومايون شجريان وحسين علي زاده وشهرام ناظري.

أما فرقته "دلغوشا" (والكلمة تعني حرفياً "ما يُفرح النفْس") فتتألف من عازفة التار البارعة مريم قره صو، وهي باحثة في الموسيقى الإثنية، وعازف السنطور علي بهرامي فرد، وعازف التومبك (الكاسور) باشا كرمي.

باختصار، موسيقيون بكفاءات كبيرة رفعوا عالياً ألوان المقام الفارسي وزرعوا بلا تكلّف نشوة في نفس من استمع إليهم.

المساهمون