بيت من ورق: اللاأخلاقي وسَوْءات أخرى

18 مايو 2015
من المسلسل
+ الخط -

تواصل بعض المسلسلات التليفزيونية في أميركا عروضها المقنعة وصمودها نقدياً، كاشفة عن وجه لم نعتد مشاهدته في هذه الصنعة. ولا نبالغ إذا قلنا إن الأمر يتعلق بـ"قطيعة" مع تقاليد مملّة وسمجة مثل الإثارة المصطنعة والإخراج السيئ، إضافة إلى المآزق الدرامية التي تطفو إلى السطح بمجرّد انتهاء الموسم الأول.

ويبرهن هذا الجيل الجديد من المسلسلات، من خلال متانة نصوصها ونضجها من ناحية الإخراج، على قدرة هذه المادة التليفزيونية على التخلّص من دونيتها تجاه الأخ الأكبر: السينما، وتجاوز دورها النمطي كعروض "ترفيهية". فالتحسّن المطّرد في ميزانيتها أدّى إلى تنقيتها من الشوائب، خصوصاً تلك التي تتعلق بالأداء الباهت عادة لممثلي الأدوار التليفزيونية وتواضعها الفني، ما مهّد الطريق نحو "هجرة" نوعية لنجوم هوليوود نحو الشاشة الصغيرة.

ويلوح مسلسل "بيت من ورق" (House of Cards) كأكثرها فرادة، حيث إنه عُرض حصرياً على الإنترنت، عبر موقع Netflix الذي ينحو باتجاه تغيير وجه الإنتاج التقليدي، التليفزيوني والسينمائي، كما يلفت في تعريفه عن نفسه.

اقتبس النص الأصلي باقتدار كبير "بو ويليمان"، وهو في الأصل رواية للسياسي البريطاني اللورد مايكل دوبز. ويؤشر حضور المخرج القدير دافيد فينشر ضمن طاقم المسلسل إلى أهمية هذا العمل الذي يَعبُر موسمه الثالث بنجاح نحو موسم رابع.

وقد شُغِل النقاد كثيراً بتداخل الواقعي والتخيّلي في هذا المسلسل ومدى تمثيله لحقائق السياسة في أميركا، خصوصاً بعد أن شاع أن الكثير من رجال السياسة متابع لهذا العمل، ومنهم الرئيس أوباما نفسه الذي أعلن صراحة عن إعجابه بالمسلسل، بل واقتبس جملة منه.

يشير انشغال المتتبعين لهذا المسلسل على نوعيته من حيث إنه مُثقل بالطرح السياسي بثوب درامي متقن. على أن التأمل المُتروي للمواسم الثلاثة يكشف عن الجوهر الذي انبنت عليه الأحداث، والذي سعى ويليمان من خلاله إلى تقصّي أثر ثنائية قديمة قِدَم وعي الإنسان بخطورة العمل السياسي.

تتمركز أحداث المسلسل أساساً حول معضلة السياسة/ الأخلاق من حيث هي سؤال أزلي في صميم كل ممارسة سياسية. ويتجسد هذا السؤال درامياً من خلال الحؤول بين البطل فرانسيس أندروود وبين أرفع منصب سياسي، ألا وهو كرسي البيت الأبيض.

نقل ويليمان بيئة القصة من رتابة السياسة في المملكة المتحدة إلى أميركا، عشّ الدبابير وقلعة البراغماتية العتيدة. وبجرأة يُحسد عليها، غاص عميقاً في سلوكات الساسة، معرّياً السعي الأعمى والظمأ الذي لا يُروَى من حوض السلطة الآسن. وتتجلى ثورية الطرح في غياب "خطوط حمراء" أو تابوهات في تناوله لسوْءَات رجال السياسة، فالقتل، والمكائد، والتهتك سلوكات روتينية - حسب هذا المسلسل - في حياة هؤلاء؛ وكانت هذه "الثورية" هي المولّدة الدائمة لحيرة تجعل المشاهد يتساءل عن صدقية هذه الأحداث إزاء واقع السياسة في أميركا.

وقياساً على هذا، فإن غياب الوازع مهما كانت طبيعته، هي خاصية مُلازمة للبطل الذي جسّده الممثل القدير كيفين سبيسي في "فصول" المسلسل المتلاحقة، والذي أمّن له الفوز بجائزة الغولدن غلوب في النسخة الماضية. أما الشخصية الرئيسية الثانية فهي زوجته كلير أندروود - جسدتها باقتدار أيضاً الممثلة روبين رايت - والتي استعيرت خلال الموسم الثالث كوجه من أوجه السياسة، فهي مُغوية، خطيرة ومُضنية. وإذ تستمر تلك العلاقة النفعية التي حكمت زواجهما منذ البداية، فإنها تتآكل شيئاً فشيئاً إثر ظهور طموحها السياسي ورغبتها في تجاوز كليشيه "امرأة وراء رجل عظيم". ليغدو هذا الصراع ثيمة رئيسية لهذا الموسم .

وفي ظل تشعّب موضوعات السياسة، كان الإمساك بخيط درامي متين والتشبث به من دون الوقوع في درامية مفرطة (Overdramatization) هو أكبر المشاكل التي واجهت فريق الكتّاب، ويتضح ذلك مثلاً في شخصية دوغ ستامبر، التي تجلى فيها تلكؤ درامي وانفراط نسبي لمجرى الأحداث. كما أن اعتماد "ويليمان" على تدهور زواج فرانسيس وكلير الذي عُدّ من أهم ما جادت به قريحته الدرامية يَشِي بقرب نهاية "فصول" المسلسل.

أما السياسة الخارجية الأميركية، مَوضِع أغلب الانتقادات والمآخذ، فكان لها حضور شكلي مقارنة بأهميتها على الصعيدين الداخلي والخارجي وذلك من خلال مأزق دبلوماسي مع روسيا، ولكن الحذر من انفلات الأحداث وتشابكها أسهم في تضييق الهامش المخصص لها.

وقصارى القول إن المسلسل، إلى جانب تكامله الفني اللافت، فرصة لمقاربة دهاليز السياسة في أميركا، ومحاولة لرسم صورة أكثر وضوحاً عن ساستها. إنه أشبه بمرآة تشي بقبح يجثم على صدر العالم منذ أمد بعيد.
المساهمون