شهد عام 1956، في مصر، فاتحة انقلاب في أمور الحكم والسياسة والاجتماع قادت الأمور إلى تغيير شمل المنطقة العربية كلّها في علاقات أقطارها ببعضها، وكذلك في علاقاتها بالعالم.
معرض "1956: وجهات نظر" الذي اختُتمت فعالياته قبل أيام في "بيت السنّاري" في القاهرة، والذي نظّمه "مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية - سيداج"، يلقي الضوء، عبر لوحات متعدّدة تتضمّن صوراً فوتوغرافية ومستنسخات لوثائق وقصاصات صحف وأغلفة مجلّات، على هذا العام الفارق في تاريخ المنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين.
يمثّل المعرض حالة مسح لنقاط مفصلية انطلقت أحداثها في العاصمة المصرية ولم تنتهِ عند حدودها الجغرافية، في وقت تطلّعت فيه القاهرة إلى قيادة عربية وتبشير بالتحرّر من الاستعمار وتأسيس قومية تحمل هي لواء رايتها. وإذ يركّز المعرض على تأميم قناة السويس كحدث فارق في تاريخ المنطقة، فإنه يتتبّع ما قبله ويرصد نتائجه وتأثيراته على الفن والأدب والسينما، فضلاً عن السياسة والمجتمع.
العدوان الثلاثي على مصر كان أحد هذه التأثيرات اللاحقة والسريعة عقب خطاب عبد الناصر الشهير في 26 تمّوز/ يوليو 1956 في الإسكندرية، والذي نصّ فيه على أنه "تؤمّم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية". بدأت "إسرائيل" العدوان في 29 تشرين الأول/ أكتوبر باحتلال سيناء ثم تبعتها بريطانيا وفرنسا في 31 من الشهر نفسه بقصف جوّي على منطقة القناة.
كان انتهاء العدوان بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه إيذاناً بتغيير طاول التنوّع الثقافي في مصر، كما تقول لوحات المعرض. بدأ ذلك بهجرة/ تهجير اليهود من مصر متزامناً مع تضييق رسمي ومجتمعيّ وتصريح من وزارة الأوقاف باعتبار أعضاء الجالية اليهودية بمصر "أعداء للدولة".
وحسب الإحصائيات التي يقدّمها المعرض فقد غادر مصر عدد يتراوح بين 25 ألفاً إلى 40 ألف يهودي في الفترة بين عامي 1956 و1957، وصُودرت منهم خمسمئة شركة، ولم يُسمح لأي منهم بالمغادرة إلا بحقيبة سفره و200 جنيه مصري مع جملة على جواز المرور الخاص بكل منهم تقول "ذهاب نهائي دون رجعة" و"طرد اختياري".
الإحلال لصوت واحد تبعه تأكيد لصداه وتوسيع لمداه بحسب ما يوحي به تسلسل المعرض، فقد شهد عام 1956 حركة إبداعية باتجاه التبشير بالاشتراكية والقومية العربية والترسيخ لفكرة الزعيم الأوحد المخلّص. حُظر إنتاج "الأعداء" الغربيين وهُمِّش الأدب الفرنكفوني، وأُمّمت الصناعات الثقافية والفنية وفي قلبها صناعة السينما والأغاني بحساب تأثيرها وقوّة انتشارها.
يختار منظّمو المعرض فيلمي "الناصر صلاح الدين" (1963) و"شباب امرأة" (1956) للإشارة إلى الأفلام التي قُدّمت على شرف نظام عبد الناصر، إذ يقدّم الأول، الذي أخرجه يوسف شاهين، بطلاً مخلّصاً أعاد الأرض العربية لأصحابها، بينما يصوّر الثاني، من إخراج صلاح أبو سيف، استعباد الطبقات العاملة.
لم تكن الأغنيات بعيدة هي الأخرى عن هذا الاستخدام المباشر، إذ أُنتجت الأغنيات الوطنية كشعارات للجمهورية المصرية الناشئة. غنّت أم كلثوم "والله زمان يا سلاحي" في حفل تأميم قناة السويس، لتصبح بعدها النشيد القومي للجمهورية العربية المتّحدة، ولاحقاً النشيد الوطني المصري بين 1960 و1979، فيما أهدى عبد الحليم حافظ أغنيته "يا جمال يا حبيب الملايين" للرئيس عبد الناصر، والتي تمّ تأليفها وغناؤها للمرة الأولى عام 1956.
على عكس السينما لم يُستخدم الأدب المصري بوضوح في معركة ناصر السياسية، وإن كان من ناحية أخرى تسبّبت حالة الانعزال المصرية وقتها في تراجع المطبوعات التي تصدر بالفرنسية، وفي أحد الاستشهادات التي يقدّمها المعرض للكاتب الفرنسي جيلبر سينويه، الذي وُلد في القاهرة عام 1947 وغادرها في عمر الثامنة عشرة، يقول "لقد كان الأمر لا يتطلّب سوى رجل واحد ليتغيّر كل شيء.
وفي إسبانيا، كان المسلمون واليهود، في نظر إيزابيل الكاثوليكية، هم الهمج. وفي نظر الرئيس العقيد (ناصر) كان الهمج هم اليهود ومسيحيو الشام". وهو رأي صاحبه ولم يجر تمحيصه تاريخياً.
إحدى المفاجآت التاريخية التي طرحها المعرض تتعلّق بتمصير قناة السويس، إذ تؤكّد المعلومات المرفقة أن ذلك تمّ قبل خطاب التأميم في عام 1956 بسنوات، إذ بدأت عملية التمصير في الثلاثينيات بعدما أجبرت الأزمة الاقتصادية العالمية الشركة على توظيف أيدٍ عاملة محلّية بسعر رخيص، وتصاعدت وتيرة التمصير حتى عام 1949؛ إذ بلغت نسبة تشغيل المصريين في المناصب الإدارية تسعة من أصل عشرة، وأربعة مناصب فنية من أصل أربعة، و50% من الربّان المعيّنين كانوا مصريين، وصولاً إلى عام 1956، حيث بلغت نسبة تشغيل المصريين 42% من الموظّفين المؤهّلين (دون العمّال).
يستعين المعرض بأرشيف بعض المجلات الصادرة وقتها بخصوص أزمة تشغيل القناة ما بعد التأميم والهجوم على مصر والتلاسن المتبادل، ولا تخلو صيغ عناوينها من التهكّم أو الهجوم، فتستعرض مجلة "المصوّر" خريطة توضّح العقبات المائية بطول القناة من البحر المتوسّط حتى الأحمر، بعنوان يحمل طابعاً هجومياً كمعظم ما صدر في تلك الفترة "لا قيمة للمرشدين، ما لم تعاونهم مصر على اجتياز هذه العقبات"، بينما تفرد المجلّة نفسها في مرّة أخرى صفحاتها لتوجيه رسائل لساسة بعض الدول المعادية أو الحليفة تحت عنوان ساخر "هدايا شم النسيم، حمامة سلام لـ بولجانين ومهدئ أعصاب لـ بن جوريون".
بحساب السنين والتاريخ، فإن زائر المعرض لن يفوته عقد المقارنات بين مصر الحالية ومصر عام 1956، خصوصاً مع الاستعانة الرسمية بكتالوغ الخمسينيات والستينيات الناصري لإدارة دفّة السياسة الحالية، وإن حاول منظّمو المعرض أن يتجنّبوا هذه المقارنات بحكم صفته الرسمية نوعاً ما.
لكن الإشارات الخافتة تبقى كافية، فاستهداف الأجانب ومعاداتهم هو نفسه، وحديث المؤامرة الخارجية لا ينتهي (وإن حمل زمان ناصر وجاهة واقعية)، وليس أخيراً بإسكات كل الأصوات النافرة عن الصوت الأوحد، صوت الزعيم.