رمضان في الحامة بوطالب: ذاكرة قرية جزائرية في الأطلس التلي

23 مايو 2020
قرية الحامّة بوطالب جنوب ولاية سطيف الجزائرية (العربي الجديد)
+ الخط -

كان حاضرُ بلدتِنا حتى بداية السبعينيات، أي قبل بداية استيقاظها ببطء سلحفاتي على شيءٍ من الحداثة، امتداداً لعهودها القديمة، بكلّ ما فيها من عُزلة وفقر وأميّة وتخلُّف.

الحامّة بوطالب هي قرية جزائريةٌ صغيرة ضائعة في جغرافيا البلاد، تقع على السفوح الشرقية لجبل بوطالب مِن سلسلة تضاريس الأطلس التلّي. تُشكّل نقطة حدودٍ فاصلةٍ بين منطقة الحضنة غرباً وجنوباً، ومنطقة الأوراس إلى الجنوب الشرقي، والهضاب العليا شمالاً حتى حدود جبال منطقة جنوب القبائل الصغرى. تحيط بها من كلّ جوانبها جبال صخرية تكسوها أشجار الصنوبر والعرعَر والطاقّة والكروش (البلوط) والكليل (الإكليل) والضرو والبقنون (من أنواع الأرز) مُشكِّلة حصوناً وأسواراً طبيعية. تضاريسها وعرة كوعورة دروبها الترابية الصلبة وطرقاتها الصّاعدة أو المنحدرة بحسب اتجاهك. طبيعتها قاسية ذات مناخ قارّي؛ قارصٌ شتاءً، وحارٍّ صيفاً، لكنّه منعش لوجود الغابات، ولكثرة البساتين والينابيع والعيون والآبار والجداول التي كانت في وقتٍ مضى سائلةً على مدار أيام السنة.

يزيد عمرُها حسب نسّابتها عن خمسة قرون. ينحدر ثلاثةُ أرباع سكّانها مِن جدٍّ واحد يُقال إنّه أوّلُ من حطّ الرّحال بهذا المكان متوقّفاً في رحلة من الساقية الحمراء غرباً إلى بلاد المشرق (إلى الحجاز لأداء فريضة الحجّ على الأرجح). بعد وفاته، استوطن المكانَ أبناؤه السبعة الذين يشكّل أحفادُهم نواةَ سكّانه، والذين بنَوا له وسط مقبرة البلدة ضريحاً اتّخذوه مزاراً إلى يومنا هذا. أمّا الجدُّ الأول، فيعود به النسّابة إلى ذرية الإمام علي، وقد قدِم مع جيش الفتح الإسلامي.

كغيرها من مداشر وقرى الجزائر، دفعت "الحامّة" ضريبةَ مجابهة الاحتلال الفرنسي، فأُحْرِقت بعد إسهامها في ثورة المقراني سنة 1871 بفرقة من أحد عشر فارساً، وعانت الأمرَّين أثناء الثورة التحريرية (1954 - 1962)، وكانت لها حصّتها من الكفاح والخوف والمضايقات وحظر التجوال والتعذيب والشهداء، لأنّ المحتلّ بنى بها ثكنة جعلها مركزاً لعملياته في المنطقة. كما نالتْ نصيبَها من الرّعب والقلق والمعاناة زمن الاستقلال أيضاً، في فترة العشرية السوداء وضغط إرهاب الجماعات المسلّحة الذي دفع نصف سكّانها للهجرة إلى المدن والمراكز الحضرية القريبة.

عادت عليها هذه الثكنة وملحقاتها بالنفع بعد الاستقلال؛ إذ أصبحَتْ مدرسةً يتعلّم فيها أطفالُها وأطفال القرى المجاورة حتى بدايات انتشار المدارس مطلع السبعينيات. كانت هذه المدرسة هي بوّابة الثقافة الحديثة التي بدأت البلدة تطلُّ عبرها على العالم الحديث عبر المقرّرات الدراسية في تلك المرحلة التي كانت كُتُبُها في معظمها سلاسل لبنانية أو فرنسية في مختلف المواد قبل ظهور الكتاب المدرسي الوطني الموحَّد لمختلف المواد والأطوار، فأصبحت بذلك معبراً إلى مراحل التعليم الأخرى في إعداديات وثانويات المدينة القريبة أو العاصمة، إلى أن حظيت بدورها بإعدادية ثمّ ثانوية في بلدة مجاورة بعد عقدين بعد ذلك.

كانت الثقافة فيها تقليديةً ذات طابع ديني بحت. تتلخّص - لمن تيسّرت له - في حفظ حاف للقرآن الكريم. وضمن حفَظَته كان ثمّة أفرادٌ قلائل يحفظون - أو قل كان لهم اطّلاع على - بعض المتون الفقهية على المذهب المالكي دون غيره، والتفاسير وبعض العلوم الشرعية الأخرى، وبعض الإلمام بقواعد اللغة العربية وعلومها، فكانوا مرجعاً يعود إليه أهل القرية والقرى المجاورة في كلّ نزاعاتهم وخلافاتهم وأحوالهم الشخصية.

كانت تُصدِّر إلى هذه القرى أيضاً مُعلِّمي القرآن طيلة أيام السنة، وأئمة لصلاة التراويح خلال شهر رمضان. كانت بها - وما زالت - خمسة مساجد، لكلّ حيٍّ مسجده. أكبرها ذاك الذي يتوسّط القرية ويسمّونه "جامع الجمعة". كان لكل مسجد منها كُتّابُه، وهو قسم أو حجرة ملحَقة به تُسمّى "مْعمّرة" يقوم فيها "الطالب"، أي معلّم القرآن، بتحفيظ الصغار القرآن الكريم في حصّتين، صباحية تبدأ قبل شروق الشمس وتستمر إلى الضُّحى، ومسائية منحصرة بين صلاتَي الظهر والعصر. ثم، أصبح معلّمو الكتاتيب يجتهدون منذ بداية الستينيات في التوفيق بين حصصهم وحصص المدرسة بعد افتتاحها لتمكين من كان يذهب إليها من ذلك.

على مرِّ تاريخها، كانت لبلْدتنا طقوسٌ وعادات وتقاليد ترتبط بكلّ نواحي حياتها، تُنظّم مناسباتها وتتحكّم في علاقاتها الاجتماعية. مِن ذلك مثلاً ما كنّا نسمّيه "الشفيع" في رمضان؛ وهو مديح يُنشَد جماعياً بعد صلاة التراويح التي تُقام في مساجد القرية الخمسة. يقول مطلعُه: "سبّوح، قدّوس، ربّ الملائكة والروح... "، وهو يتشكّل من قسمَين: الأول هو دعاءٌ عام، والثاني هو صلاة وتسليم على النبي محمد، يُؤدَّى بطريقة مختلفة، وتُكرَّر كلُّ جملة من جمله ثلاث مرّات، ويستغرق من ربع ساعة إلى عشرين دقيقة تقريباً. والحقيقة أنّ هذا المديح لم يكن خاصّاً بمساجد قريتنا فقط، بل كان تقليداً مًتّبَعاً في معظم مناطق القطر الجزائري، مع اختلافات طفيفة هنا وهناك.

ونحن صغار دون الثانية عشرة، كنّا نتشوّق إلى سماعه قبل أن نشارك في أدائه سنوات بعد ذلك متى كنّا في البلدة أثناء الشهر الفضيل، فنطلب إذناً مِن الوالد رحمه الله (إذنٌ لم يكن ممكناً دائماً) كي نخرج بعد الإفطار إلى مسجد الحيّ القريب، حيِّ أخوالي "مسجد دار الشيخ"، نستمع إلى المُصلِّين وهم يؤدّونه بخشوع. كنّا نجلس في بهو صغير بالمسجد مسقوفٍ ومفتوح على الشارع نسمع المديح بصمت وخشوع نحن أيضاً. وغالباً ما كان من جمهور المستمعين نسوة، قبل أن تصبحن هنّ أيضاً من مؤدّيات صلاة التراويح (والجمعة أيضاً) في المساجد في السنوات الأخيرة، يقْدِمْن من بيوتهنّ مختلسات لحظات لسماع "الشفيع"، لكنّهن، وفي انتظار انتهاء ركعات صلاة التراويح كنّ يغتنمن الفرصة، مثلما تفعلن كلّما التقين في مجموعة لتبادل أحاديث خافتة - خفوتٌ يفرضه المقام زماناً ومكاناً - للسؤال وتبادل الأخبار والأسرار والنميمة وما إلى ذلك، وكثيراً ما كانت تصاحب أحاديثهنّ تلك جلبة نُحدثها نحن الصّبية فيخرج من قاعة الصّلاة من ينهرنا أو يتوعّدنا أو يطردنا.

توقّف أداء هذا المديح في مساجد بلدتنا مع مطلع التسعينيات عندما أفتى بعضُهم - واللافتُ أنّهم كانوا شباباً - ببدعيته، فيما كان يبدو، إضافةً إلى مختلف الجوانب والحيثيات الأُخرى، صراع أجيال قائم على تسفيه "وتبديع" معظم ممارسات السابقين. تزامن ذلك مع صعود الأحزاب الدينية بعد التعدّدية. ثمّ انقرض المديح تماماً، وأصبح ذكرى يستعيدها حنيناً الذين عاشوها.

ومن تقاليد رمضان، لكن ليلة العيد هذه المرّة، إخراج الصدقة (شيء آخر غير زكاة الفطر)، الذي يستمرّ ممّا بعد الإفطار حتى صلاة الفجر. عادةً ما تكون هذه الصدقة التي ما تزال سارية حتى اليوم تمراً جافّاً وطبقاً محلياً: شخشوخة (فتات رقائق أو فطير أو مسمّن بحسب تسميته في كلّ منطقة مسقية بمرق أحمر ممزوج بدهان/ زبدة معتّقة مُملّحة أو زيت زيتون)، أو فطائر أو كسكسي أو رفيس (دقيق خشن محمّر في مقلاة يُخلط بعدها بتمر معجون) أو حلوى مصنوعة بالبيت (في السنوات الأخيرة)، أو قهوة بحليب. توضع الصّدقة في صحون المساجد أو في المقاهي أو حيث يتجمّع الشباب هنا وهناك، فيؤكَل كلُّ ما في الطبق ولا يعود منه شيء إلى البيت، ذلك أنّ ليلة العيد كانت ليلةً بيضاء يسهر فيها الشباب، وبعض الكهول، في قراءة القرآن في المساجد أو لعب الورق والدومينو في المقاهي حتى الصبح.


* ناقد وأكاديمي من الجزائر

المساهمون