تهدد الشركات الصينية التي تتمدد بشكل واسع وسريع في أوروبا، تماسك القرار الموحد بدول الاتحاد الأوروبي وتعرقل صياغة سياسة موحدة في بروكسل تجاه بكين. وبينما تتزايد الاستثمارات والقروض الصينية في أوروبا، تعترض دول الكتلة التي لديها مصالح اقتصادية متنامية مع الشركات الصينية على القرارات التي تدين بكين. وبالتالي تتزايد الشكوك في دوائر غربية حول مستقبل استراتيجية الرئيس جو بايدن الرامية لمحاصرة التمدد التجاري الصيني عبر تكوين "تحالف الاقتصادات الرأسمالية" وعلى رأسها أوروبا واليابان والهند.
وارتفعت حصة الاستثمارات الصينية في الشركات الأوروبية إلى نسبة تقدر بنحو 9.5% بنهاية العام 2019، كما ارتفع حجم الاستثمارات الصينية في أوروبا إلى أكثر من 120 مليار دولار في العام الماضي 2020. وتركز الشركات الصينية منذ سنوات على شراء شركات التقنية الصغيرة بدول الاتحاد الأوروبي أو تلك التي تعاني صعوبات مالية بهدف تطويرها وتوظيف الكفاءات الأوروبية بأجور مغرية، ثم تستخدم الصين هذه التقنيات لتحديث صناعاتها.
وعلى الرغم من مساعي الولايات المتحدة خلال سنوات الرئيس السابق دونالد ترامب محاصرة مشروعات مبادرة "الحزام والطريق" أو مشروعات "طريق الحرير"، فإن حجم الاستثمارات الصينية في مشروعات البنى التحتية في أوروبا تتزايد، خاصة في أوروبا الشرقية ودول الجنوب الأقل تطوراً مثل اليونان والبرتغال وإسبانيا.
في هذا الشأن، قالت دراسة تحليلية نشرتها وكالة بلومبيرغ، وتناولت 679 صفقة مكتملة أو قيد التنفيذ أبرمت في 30 دولة أوروبية منذ العام 2008، إن الشركات الصينية المدعومة من الدولة أو الخاصة شاركت بصفقات لا تقل عن 255 مليار دولار، مستحوذة بذلك على 360 شركة في مختلف المجالات ابتداءً من الشركة الإيطالية لتصنيع الإطارات "Pirelli" وصولاً إلى شركة أيرلندية لتأجير الطائرات.
هذه الأرقام تعكس طموحات الصين في السيطرة على أبرز الأسواق في العالم، وهو ما أثار قلق القادة الأوروبيين، بمن فيهم المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اللذان ناديا بمزيد من الحذر واليقظة.
وسعت مفوضية الاتحاد الأوروبي خلال العام الماضي لتضييق الخناق على تملك الشركات الصينية لحصص في بعض مؤسسات التقنية بالدول الأعضاء في دول الاتحاد، ولكن لا تزال الحصة الصينية في شركات التقنية والتصنيع الأوروبية كبيرة.
وحسب دراسة نشرتها وكالة بلومبيرغ، تصدرت بريطانيا قائمة الدول الأوروبية من حيث عدد الصفقات الموقعة مع الصين، والتي وصلت خلال الأعوام العشرة الماضية إلى 227 صفقة بقيمة 70 مليار دولار، تليها في المرتبة الثانية ألمانيا بـ225 صفقة بقيمة 20 مليار دولار.
في المقابل، جاءت فرنسا في المرتبة الثالثة بـ89 صفقة بلغت قيمتها 13.4 مليار دولار، متقدمة بنحو طفيف عن إيطاليا من حيث عدد الصفقات، والتي أبرمت 85 صفقة مع الجانب الصيني بقيمة 31 مليار دولار.
ومن بين المشاريع التي تضعها الشركات الصينية في حسابات التنفيذ خلال الأعوام المقبلة، بناء مفاعلات نووية في رومانيا وبلغاريا، وشراء محطة للحاويات في كرواتيا، وإنشاء ميناء في السويد، والاستحواذ على شركة "سكودا" للسيارات.
وفي ذات الشأن، تقول دراسة لـ"مجلس العلاقات الخارجية الأميركية"، إن ثلثي دول الاتحاد الأوروبي انضمت لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية حتى العام الماضي 2020. وموّلت بكين خلال الأعوام الأخيرة مجموعة كبيرة من مشروعات البنى التحتية في منطقة البلقان وأوروبا الشرقية التي كانت بحاجة ماسة لاستثمارات جديدة. كما تواصل الصين تصدير بضائعها إلى أوروبا عبر القطارات والموانئ والمطارات ضمن مبادرة " الحزام والطريق".
وفي العام الماضي 2020، تجاوز حجم تجارة البضائع بين دول الكتلة الأوروبية والصين، حجم تجارة الكتلة مع الولايات المتحدة. ويتزايد عدد رحلات قطارات البضائع الصينية إلى أوروبا، وهو ما يعني زيادة حصة البضائع الأوروبية في المتاجر بالمدن الكبرى في لندن وباريس وروما.
وقدر تحليل نشره باحثان في مجلس "العلاقات الخارجية" الأميركي في نهاية إبريل/ نيسان الماضي، ارتفاع عدد رحلات القطارات بين الصين وأوروبا بنحو 12400 رحلة خلال العامين الماضيين 2019 و2020. كما بلغ حجم الاستثمارات الصينية المباشرة في دول الاتحاد الأوروبي نحو 120 مليار دولار في العام 2020، بينما بلغ حجم الاستثمار الأوروبي المباشر في الصين نحو 140 مليار دولار وفقاً لبيانات " يوروستات". وبعض دول أوروبا الصغيرة باتت غارقة في الديون الصينية، مثل دولة الجبل الأسود التي تسعى للحصول على تمويل أوروبي لخدمة ديونها للصين.
وحسب تقرير بصحيفة "ديلي إكسبريس" البريطانية، رفضت دول الاتحاد الأوروبي منح جمهورية الجبل الأسود مساعدات قيمتها مليار دولار لتمويل قرض صيني يخص مشروع طريق سريع لم يكتمل بعد. وهنالك العديد من دول أوروبا الشرقية التي ربما ستطلب مساعدات من المؤسسات المالية الأوروبية خلال السنوات المقبلة لخدمة ديونها الصينية المتنامية.
من هذا المنطلق، يرى محللون أن الحلم الأوروبي المخطط له أن يلعب دورا رئيسيا في صياغة عالم ما بعد كورونا إلى جانب الولايات المتحدة بات يتبخر. وظلت أوروبا، رغم ثقلها الاقتصادي، قطعة شطرنج طوال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية منفسمة بين فكي التنين الصيني ومصالحها الاستراتيجية مع واشنطن.