استيقظ العالم منتصف الأسبوع الماضي على كارثة مروعة بكلّ المقاييس، إذ ضرب زلزال ضخم 10 ولايات جنوب شرقي تركيا، علاوة على شمالي الأراضي السورية، وشعر به سكان دول عدة منها لبنان ومصر وقبرص وغيرها، وبلغت شدة الزلزال 7.8 على مقياس ريختر، وتبعه زلزال آخر بنفس الدرجة تقريبا، ثم العديد من التوابع الأخف درجة.
وخلفت كل هذه الزلازل أرقاماً هائلة من الوفيات والجرحى، والأضرار الاقتصادية الجسيمة والمباني المهدمة التي شاهدناها تتهاوى كأنها مصنوعة من الورق، في مشاهد وصفتها وكالات الأنباء بأنها من "يوم القيامة".
وأعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنّ الزلزال الذي ضرب جنوبي تركيا وشمالي سورية "أحد أسوأ الزلازل في المنطقة منذ أكثر من قرن".
وقال شينجي تودا، أستاذ المعهد الدولي لبحوث علوم الكوارث في جامعة توهوكو اليابانية، إنّ الزلازل المتمركزة في كهرمان مرعش التركية هي من بين أكبر الزلازل التي حدثت على اليابسة في العالم. واستطرد: "كان زلزالاً كبيراً بشكل غير متوقع".
لأول مرة تجاوزت حصة صادرات تركيا 1% من صادرات العالم، ووصلت تلك الصادرات إلى أسواق 197 دولة ومنطقة حول العالم
وحتى كتابة هذه السطور، بلغ عدد الوفيات نحو 30 ألفاً في كلّ من تركيا وسورية، علاوة على أكثر من 80 ألف مصاب، وتهدم ما يقارب 7 آلاف بناء في تركيا وحدها، ولا يزال رجال الإنقاذ يحاولون انتشال الجثث والعالقين، وتتوقع مؤسسة risklayer الألمانية لتقدير مخاطر الكوارث أن يتم تسجيل أكثر من 34 ألف ضحية في تركيا وأكثر من 10 آلاف في سورية، وأضافت أنّ زلزال كهرمان مرعش سيصنف بين أكثر 15 زلزالاً فتكاً في العالم منذ عام 1900، إذا وصل إجمالي عدد القتلى إلى حوالى 34 ألفاً.
وقالت منظمة الصحة العالمية، في بيان، إنّ عدد المتضرّرين بالزلزال المدمّر قد يصل إلى 23 مليوناً، بينهم نحو 5 ملايين في وضع ضعيف، ولا شك أنّ هذه الأضرار الكارثية ستؤثر بدرجة كبيرة على أوضاع الاقتصاد التركي خلال الفترة المقبلة، ورغم النجاح الكبير للإدارة التركية في الخروج من تداعيات فيروس كورونا وحرب أوكرانيا، لكنّ تأثير الزلزال قد ينذر بتعطل مسيرة الصعود الاقتصادي.
نجاح لافت في العام الماضي
حقق الاقتصاد التركي العديد من النجاحات في العام الماضي، فقد ارتفعت قيمة الصادرات إلى ما يقارب 255 مليار دولار، بزيادة 12.9% مقارنة بعام 2021 الذي بلغت خلاله 235 مليار دولار، ولأول مرة تجاوزت حصة صادرات تركيا 1% من صادرات العالم، ووصلت تلك الصادرات إلى أسواق 197 دولة ومنطقة حول العالم.
وحققت قيمة الصادرات الصناعية وحدها نحو 125 مليار دولار، بينما سجلت الصادرات الزراعية نحو 25 مليار دولار، بالإضافة إلى 4 مليارات صادرات الصناعات الدفاعية، وهي الأرقام التي تشير بوضوح إلى قوة القطاع الإنتاجي التركي ومساهماته القوية في معدل النمو للبلاد.
كما حقق قطاع السياحة التركي طفرة كبيرة بنهاية العام الماضي، ووفق بيانات معهد الاحصاء التركي، فإن عائدات البلاد من قطاع السياحة شهدت ارتفاعاً ملحوظاً، حيث بلغت 46 مليارا و284 مليونا و907 آلاف دولار، لتزيد إيرادات السياحة بنسبة 53.5% عن عائدات عام 2021، وفي ظل أزمة المحروقات في أوروبا والانخفاض الكبير لسعر الليرة، من المتوقع أن تشهد السياحة استمراراً في تصاعد العوائد.
شكلت العوائد الكبيرة للصادرات والسياحة في تركيا، بالإضافة إلى الاستثمارات الأجنبية بصفة عامة، ولا سيما الاستثمارات الروسية ومبيعات العقارات القياسية، دعامات قوية ومهمة للاقتصاد التركي، وسعر صرف العملة المحلية الذي نجح في الصمود خلال الشهور الماضية، وذلك بعد سلسلة من الانخفاضات المتوالية والناتجة عن فجوة العملة الأجنبية، وهو الأمر الذي استثمرته الإدارة الاقتصادية التركية في زيادة الصادرات والسياحة.
شكلت العوائد الكبيرة للصادرات والسياحة في تركيا، بالإضافة إلى الاستثمارات الأجنبية، ومبيعات العقارات القياسية، دعامات قوية ومهمة للاقتصاد المحلي
ورغم أنّ معدل التضخم المرتفع لا يزال صداعاً في رأس الإدارة التركية، فإنّ بداية انخفاضه الملحوظ خلال الشهرين الماضيين، بالإضافة إلى خطة جريئة برفع الحد الأدنى للأجور أكثر من مرة، بل الإعلان عن إمكانية رفعه مرة أخرى بنهاية مارس/آذار المقبل، شكّلت كلها حماية للمواطن من تغول التضخم على قدراته الشرائية، وهو الأمر الذي تدعمه مؤشرات صعود الاقتصاد خلال العام الماضي.
اقتصاد تعود على الأزمات
تولت حكومة الرئيس أردوغان مقاليد حكم تركيا عام 2003 في ظل أوضاع اقتصادية بالغة السوء، وسرعان ما نجحت في إزالة ستة أصفار من أمام سعر صرف الليرة، وتخفيض معدل التضخم إلى خانة الآحاد، ولم تمر خمسة أعوام حتى عاجلت الأزمة المالية العالمية عام 2008 الاقتصاد التركي، ولم يكد يستفيق من تداعياتها حتى فاجأته هجرة ما يزيد عن 4 ملايين سوري نحو الأراضي التركية في عام 2011، نجح في استيعابهم بصورة كاملة وتحويلهم في سنوات معدودة إلى قوى عملية منتجة أضحى من الصعب الاستغناء عنها.
وبعد خمسة أعوام أخرى، كانت المحاولة الانقلابية الفاشلة في عام 2016، التي تبعها حالة من عدم الاستقرار السياسي والذهاب نحو التعديلات الدستورية والنظام الرئاسي.
ولم تكد تمر خمس سنوات أخرى، حتى كانت أزمة إغلاق كورونا بتداعياتها الكبيرة على كلّ اقتصادات العالم ومن بينها الاقتصاد التركي، ثم اندلعت الحرب الروسية على أوكرانيا منذ ما يقارب العام، وكلها ضربات قوية تعرض لها الاقتصاد التركي، لكنّه نجح في تحويلها إلى فرص استثمرها بكفاءة تجلت في تنامي مؤشراته الاقتصادية.
رغم فداحة الخسائر الناتجة عن الزلزال والتي من المتوقع تضاعف أرقامها خلال الأيام المقبلة، فإنّ الإدارة التركية الحالية اعتادت التعامل مع الأزمات
يشير الاستعراض السابق إلى أنّه لم تكد تمر خمس سنوات كاملة على الاقتصاد التركي حتى ضربته أزمة جديدة، وكلها أزمات قوية وغير مسبوقة، ونجح في اجتيازها الواحدة تلو الأخرى، وهو الأمر الذي من المؤكد أنه سينسحب على تداعيات الزلزال المدمر على الاقتصاد، لكنّه ضرب عشر ولايات من بين أكثر من 80 ولاية، ما يعني أنّه لا تزال الآلة الانتاجية في أكثر من 70 ولاية تعمل بأعلى طاقاتها.
رغم فداحة الخسائر الناتجة عن الزلزال الأخير والتي من المتوقع تضاعف أرقامها خلال الأيام المقبلة، فإنّ الإدارة التركية الحالية اعتادت التعامل مع الأزمات، وباتت أكثر احترافية بعد مرورها بالعديد من الأزمات الكبرى خلال العشرين عاماً الماضية، ولا يزال الاقتصاد قادراً على الصمود والمواجهة رغم المخاطر الشديدة، ومن المرجح نفضه غبار الأحزان سريعاً واستمرار صعوده خلال الفترة المقبلة.