تبدو مخاوف الركود الاقتصادي أقل تأثيراً على أسعار النفط من الصدمة التي تتعرض لها الأسواق بفعل التصعيد الروسي الأخير لحشد مئات آلاف المقاتلين للحرب في أوكرانيا، وكذلك القلق من وقف الرئيس فلاديمير بوتين بيع النفط حال فرض الغرب سقفاً سعرياً عليه، والتحول الأوروبي للاعتماد على النفط ومشتقاته خاصة الديزل كبديل للغاز الذي قفزت أسعاره إلى مستويات حادة غير مسبوقة بفعل تقليص موسكو إمداداته رداً على العقوبات الغربية بحقها عقب غزو أوكرانيا، فضلاً عن عودة الانتعاش إلى الصين.
وتراجعت أسعار النفط إلى أدنى مستوى في ثمانية أشهر، في ختام تعاملات الأسبوع الماضي، عقب رفع البنك الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة مجدداً بنسبة لافتة، ليخسر خام برنت نحو 4.8% ويبلغ عند التسوية 86.15 دولاراً للبرميل، مسجلاً رابع انخفاض أسبوعي على التوالي، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها هذا منذ ديسمبر/ كانون الأول.
صعود جديد للأسعار
لكن أكبر بنوك الاستثمار الأميركية، ترى أن هذا الانخفاض قد يكون مقدمة لصعود صادم، لا سيما أنّ الطلب على النفط لا يزال قوياً على عكس ما يشاع من تباطؤ الطلب، ما يؤشر إلى ارتفاع للأسعار بين 95 دولاراً للبرميل و125 دولاراً بنهاية 2022.
وتوقع بنك مورغان ستانلي الاستثماري الأميركي أن يرتفع سعر خام برنت في لندن إلى 95 دولاراً للبرميل في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الجاري، وهو أدنى مستوى للأسعار مقارنة مع بنكي "جيه بي مورغان"، الذي رجح وصول السعر إلى 101 دولار للبرميل، وبنك "غولدمان ساكس" الذي توقع بلوغ مستوى 125 دولاراً للبرميل، مقتربا من ذروة الأسعار التي سجلها الخام بعد أيام من اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا نهاية فبراير/ شباط الماضي.
وتربك هذه المستويات حسابات الكثير من الدول المستهلكة الكبرى، التي راهنت على التباطؤ العالمي لملء خزاناتها من جديد على غرار ما حدث خلال فترة تهاوي الأسعار إبان ذروة جائحة فيروس كورونا.
وانخفض النفط الخام أكثر من 20% في الربع الثالث، وسط انتشار المخاوف الاقتصادية الكلية، ورفع البنك الفيدرالي الأميركي لأسعار الفائدة، ما أدى إلى صعود الدولار إلى مستوى قياسي، وتسبب في رياح معاكسة للسلع.
لكن قد تكون الأشهر الثلاثة المقبلة مغايرة وفق ما نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية عن محللين في العديد من بنوك الاستثمار الكبرى، الذين رأوا أن الأسعار ستزيد مع تشديد عقوبات الاتحاد الأوروبي على التدفقات الروسية، وقيادة الولايات المتحدة خطة جريئة لوضع سقف على سعر النفط الروسي، فضلا عن تلميح منظمة البلدان المصدرة للبترول "أوبك" إلى خفض الإمدادات.
وقال مارتين راتس، محلل النفط في مورغان ستانلي، في مقابلة مع بلومبيرغ: "نتوقع سوقاً ضيقة للغاية، حيث تشير كل المؤشرات إلى سوق صعودية للغاية، ارتفعت الأسعار بسبب انتعاش الطلب بعد فيروس كورونا، كما أنّ جانب العرض لم يتعاف بالسرعة الكافية".
قد يعني ذلك أن أسواق النفط تظل في "عجز غير مستدام" بالأسعار الحالية، وفقاً لنيخيل بهانداري، الرئيس المشارك للموارد الطبيعية وأبحاث الطاقة النظيفة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ لدى غولدمان ساكس، مضيفاً أنّ ارتفاع الاستهلاك سيأتي من زيادة نشاط السفر وكذلك التحول من الغاز إلى النفط.
كما أشار بارسلي أونغ، رئيس قسم الطاقة والكيماويات الآسيوية في جيه بي مورغان إلى أن السوق شهدت نقصاً في الاستثمارات في إنتاج النفط لسنوات ما يؤثر على المعروض، موضحاً: "في الولايات المتحدة، لا نتوقع ارتفاع عدد الحفارات بما يكفي لتعويض معدلات الهبوط الطبيعية، فالآبار المحفورة غير المكتملة عند أدنى مستوياتها منذ عام 2014، علماً أنّ الطاقة الاحتياطية لدى أوبك ضعيفة للغاية".
مخاوف من التصعيد الروسي
تعني قيود العرض أنه مع خروج العالم من الركود الناجم عن الوباء، جرى سحب الاحتياطيات لتغذية الشهية المتزايدة تجاه النفط، وفق راتس من مورغان ستانلي الذي قال إنّه "بمجرد أن يرتفع الطلب نتيجة السحب التدريجي للمخزون العالمي، ستصعد الأسعار مرة أخرى، ففي الوقت الحالي، تراجع الطلب قليلاً، لكنّ صورة العرض لم تتغير كثيراً، سقف العرض ليس بعيداً على الإطلاق، وبمجرد أن يرتفع الطلب، ستعود نفس ضغوط الأسعار إلى السوق مرة أخرى".
وتبدو تأثيرات رفع أسعار الفائدة بهدف امتصاص التضخم الجامح وما يتبعه من تباطؤ اقتصادي أقل تأثيراً على أسعار النفط من المخاوف السائدة من توقف الإمدادات الروسية إذ هدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل أسابيع، بوقف بيع الخام حال فرض سقف على سعر الخام الروسي، وهو أمر غير مستبعد من بوتين، وفق نشرة أويل برايس الأميركية المتخصصة في أخبار الطاقة.
وعلى الرغم من التباطؤ الاقتصادي الجاري بالفعل في أجزاء كثيرة من العالم والمخاوف من حدوث ركود في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، لم تنخفض أسعار النفط كثيراً عن 86 دولاراً للبرميل، وهو مستوى يرتفع بنحو 11.3% عن نفس الفترة من العام الماضي، إذ سجل في 23 سبتمبر/أيلول 2021 نحو 77.2 دولاراً للبرميل، وهي الفترة التي شهدت بداية انحسار تداعيات وباء كورونا.
كما قال وزير الطاقة الروسي نيكولاي شولغينوف في اجتماع وزراء الطاقة لمجموعة العشرين مطلع الشهر الجاري، إنّ العقوبات المفروضة على روسيا لا تؤدي إلّا إلى انقطاع إمدادات الطاقة، مما يؤدي إلى زيادة أسعارها.
ووفق ما نقلت وكالة تاس الروسية عن شولغينوف حينها فإنّ "إجراءات بعض البلدان تتعارض مع منطق السوق وتضر بمصالح مواطنيها" مضيفاً: "يجري استخدام الاستهلاك والطلب على موارد الطاقة كأداة للضغط السياسي، بينما قطاع الطاقة والاقتصاد الروسي يواصلان العمل بشكل مستدام رغم القيود المفروضة".
مخاطر التباطؤ الاقتصادي
وكانت الدول الكبرى المستهلكة للنفط تراهن على أن تؤدي السياسات النقدية المتشددة من قبل البنوك المركزية لا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا إلى تباطؤ الطلب العالمي على الخام بفعل كبح النمو الاقتصادي. ورفع الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة بمقدار 75 نقطة أساس، يوم الأربعاء الماضي. وحذت البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم حذوه في رفع الفائدة، مما زاد من مخاطر التباطؤ الاقتصادي.
لكن التصعيد الروسي للحرب في أوكرانيا، بإعلان بوتين، يوم الخميس الماضي، التعبئة الجزئية التي يجري من خلالها حشد نحو 300 ألف مقاتل، تسبب في توقف كل الرهانات، ما يدفع أسعار النفط إلى المزيد من الارتفاع.
علاوة على ذلك، يقول محللون في قطاع الطاقة، وفق نشرة أويل برايس، إن تحول أوروبا إلى النفط ومشتقاته خاصة الديزل لتعويض تقلص إمدادات الغاز خلال الشتاء المقبل، يدعم الطلب على النفط حتى في بيئة الركود الاقتصادي المعتدل.
وتسيطر المخاوف على الشركات الصناعية العملاقة في أوروبا منذ شهور من أن يؤدي نقص الغاز هذا الشتاء إلى شلّ الإنتاج، كما أنّه في حال توفره فإن الكثير منها لا تستطيع تحمّل تكلفته، ما يدفعها نحو بدائل أرخص.
وتتكبد أوروبا سبعة أضعاف ما تدفعه الولايات المتحدة مقابل الغاز، ما يبرز التدمير الهائل الذي يلحق بالقدرة التنافسية الصناعية للقارة ويهدد بإحداث ضرر دائم لاقتصادها.
كما تظهر المؤشرات أن الصين التي فرضت قيوداً واسعة لمواجهة كورونا خلال الأشهر الماضية، تعاود الانفتاح ما يزيد الطلب أيضا على النفط من جانب ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
ووفق وكالة الطاقة الدولية، فإنّ من المتوقع أن ينمو الطلب العالمي على النفط بمقدار مليوني برميل يومياً في 2022 وحوالي 2.1 مليون برميل يومياً العام المقبل. كما لا تزال أوبك ترى في أحدث توقعاتها أن النمو الاقتصادي العالمي سيظل قوياً عند 3.1% هذا العام و3.1% أخرى العام المقبل، مما يشير إلى أن المنظمة لا تزال تتوقع نمواً صحياً للطلب على النفط على الرغم من مخاوف السوق من الركود.