تعاني الجزائر من نزيف السلع خاصة المدعمة منها، غذائية كانت أو مشتقات نفطية، إلى دول الجوار، في مقدمتها تونس شرقاً والنيجر جنوباً، بالرغم من محاولات كبح عمليات التهريب، أمنياً وقانونياً، إلا أن الأوضاع الاقتصادية المتردية في الشريط الحدودي جعلت من "مهنة" التهريب ملاذاً للعيش لسكان الحدود، فيما يتكبد الاقتصاد خسائر كبيرة.
في الشرق الجزائري تحولت ظاهرة تهريب المواد الغذائية إلى مهنة لسكان الشريط الحدودي، وبالأخص مدينة "بئر العاتر" في ولاية "تبسة" (580 كلم شرق العاصمة الجزائرية)، حيث جعل منها موقعها الجغرافي الملاصق للشريط الحدودي مع تونس، إمبراطوية التهريب نحو الجارة الشرقية، وفق وصف محللين، خاصة في ظل الأزمات التموينية التي تعيشها تونس مؤخراً.
واستطاعت "العربي الجديد" الوصول الى أحد "الحلابة" وهو الاسم الذي يطلقه الجزائريون على المهربين، ويدعى "عبد اللطيف" الذي قال إن "ممارسات التهريب تحولت إلى مهنة ومصدر قوت العائلات على طول الشريط الحدودي للجزائر، ليس فقط مع تونس.. في ظل الأوضاع المزرية التي تعيشها المناطق الحدودية يتوجه كثيرون قسراً إلى التهريب".
وحول نشاطه أوضح عبد اللطيف :"نهرب كل شيء مطلوب في تونس، بالأخص المواد الغذائية المدعمة كالطحين والعجائن وزيت المائدة ومعجون الطماطم، وأيضا الأجهزة الإلكترونية الصغيرة كالهواتف والحاسبات اللوحية حسب الطلب، هناك أطراف تونسية نتعامل معها، نتقاسم الطريق، وأحيانا هم من ينتقلون إلينا، والعائدات تكون حسب حجم السلع والمخاطر، نحن نتحدث عن إمكانية الموت أو السجن في كل رحلة ليلية".
وتابع: "هناك مهربون تحولوا إلى مستثمرين كبار في ولاية تبسة والجميع يعرفهم كيف كونوا ثروتهم بتهريب المواد الغذائية والوقود، وباتوا يغيرون حتى المسيرين الإداريين (الموظفين والأمنيين في الولاية) بسلطة المال".
وإذا كانت "بئر العاتر" إمبراطورية التهريب في الشرق الجزائري، فإن مدينة "العلمة" (300 كلم شرق العاصمة) وبفضل أسواقها المشهورة تحولت إلى "سوق خلفية" لتونسيين باحثين عن شراء سلع بطرق نظامية، وذلك عبر تنظيم رحلات خاصة عبر حافلات كبيرة، فيما يستغل البعض الرحلة لشراء مواد غذائية مدعمة وتهريبها وسط السلع، خاصة وأن الجمارك لا تشدد الرقابة على هذه الرحلات.
في سوق "دبي" في العلمة، الشهير بالسلع المستوردة من الصين، تحول التجار إلى "قبلة التونسيين" الباحثين عن السلع المطلوبة في الأسواق المحلية، حيث يؤكد التاجر خالد بلعكلي أن "السوق تشهد يومياً وصول حافلات من تونس لتجار "الشنطة" أو تجار عاديين لشراء ملابس رجال ونساء وأوان منزلية، وغيرها من المواد، ويستغلون فرصة التنقل إلى الجزائر لشراء بعض المواد التموينية المدعمة، وإخفائها مع السلع في صندوق الحافلات، في البداية كان الأمر فرديا وتحول مع الوقت إلى رحلات جماعية عبر وكالات السفر".
وأضاف التاجر الجزائري أن " العلاقات التي تكونت بين التجار الجزائريين والتونسيين، سمحت للطرف التونسي بأن يجري طلبيات للسلع الغذائية قبل المجيء حتى يتم تحضيرها، ليبقى عامل الحظ هو الفيصل في النقاط الحدودية، في العادة هناك تساهل مع الحافلات التونسية خاصة في الظروف المعيشية في البلدين".
مقايضة في الجنوب
وتختلف أشكال التهريب عبر طول الحدود الجزائرية الكبيرة، وتختلف السلع والمقابل لها، ففي ولاية "عين قزام" الحدودية مع دولة النيجر، يستغل المهربون ما ينقلونه من سلع تموينية لمقايضتها بالسجائر والشاي والفواكه الاستوائية وغيرها من السلع غير المنتجة محليا واسعة الطلب والاستهلاك.
وفي السياق، قال طاهر إيغر، أحد أعيان المدينة لـ"العربي الجديد" : "التهريب بات أمراً شائعاً هنا، لشساعة المنطقة.. نتحدث عن أكثر من 500 كيلومتر من الحدود مع دولة النيجر، في الغالب يستغل المهربون رحلاتهم نحو مدينة أساماكا وغيرها من المدن القريبة من الحدود، حيث تقام أسواق للمقايضة، يجري فيها تداول كل أنواع السلع، من غذاء وسجائر وحتى الأغنام، المهم التفاوض، وللأسف جرى مع الوقت نسج شبكات محترفة تنشط وفق نظام محكم، كأنه بورصة".
وأضاف أن " الحل يكمن في فتح أسواق مقايضة رسمية ومع تنشيط حركة التجارة في المنطقة من أجل توفير قوت للسكان وأيضا قطع الطريق على المهربين الذين يستغلون شباب المنطقة، للنقل والمراقبة لمعرفتهم الجيدة للجغرافيا".
صعوبات في مواجهة التهريب
تواجه الجزائر مجموعة من التحديات الكبرى، صعوبات في مواجهة التهريب المتسع بكل أشكاله، وسط محاولات لتشديد المنظومة التشريعية لجعلها أكثر تماشيا مع طبيعة جرائم التهريب.
وحسب حصيلة الجيش الجزائري لسنة 2022، والتي اطلعت عليها "العربي الجديد"، فقد أوقفت قوات الجيش المرابطة على طول الحدود، 11050 مهربا، واسترجعت 2543 طنا من المواد الغذائية، و1.9 مليون لتر من الوقود، و300 ألف لتر من المشروبات.
وقال الخبير الاقتصادي جمال نور الدين إن "عدم اتخاذ الحكومة لإجراءات اقتصادية لتنمية المناطق الحدودية، بالتزامن مع الإجراءات الأمنية والإدارية، جعل التهريب ملاذاً للأسر الفقيرة".
واعتبر نور الدين في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "التهريب مرتبط بدعم الدولة لأسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، فرفع الدعم عن هذه السلع يعتبر الأنسب لكبح هذه الظاهرة، فانخفاض أسعار المواد المهربة داخل الوطن وارتفاعها بالدول الحدودية، شجع على تهريبها وبيعها هناك بأضعاف سعرها، ما يكلف الخزينة 3 مليارات دولار سنوياً حسب الحكومة الجزائرية، منها 1.3 مليار دولار لمواد الطاقة والباقي يتوزع على مواد غذائية عدة".
وأضاف أن "المسؤولية تقع على الحكومة، إذ يتوجب عليها الاهتمام بالشباب المهرّب وتوفير الوظائف، لتقليص هذه الظاهرة، يجب معالجة هذه الآفة على كل المستويات لكون الظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى ثم اقتصادية".
وتابع: "هناك إشكالية كبيرة ظهرت مؤخراً في الجزائر، تتمثل في اختلال منظومة القيم، إذ وبدل الانتقال من العمل لتحقيق الثروة، نرى أن الشباب، برغم الآليات التي انتهجتها الدولة لمساعدتهم على خلق مؤسساتهم الاقتصادية الخاصة، يحاولون دائماً الوصول إلى أقصى الأرباح بأقل جهد وأقل عمل، حيث فقدت قيمة العمل بالبلاد، فظاهرة الكسب السريع، وفقدان قيمة العمل بالبلاد، جعلت العمالة الأجنبية تقوم بالمجهود الذي يجب أن يقوم به الجزائري، عارضة خدماتها المختلفة التي صار يعزف عنها شبابنا اليوم، كالفلاحة والبناء ومختلف الأشغال البدنية الشاقة".
منحة للعاطلين
وبجانب انتشار ظاهرة التهريب، أعاد توسع البطالة، إحياء الأسواق العشوائية في مدن الجزائر، والتي لجأ إليها الكثير من الشباب لكسب بعض المال. وبلغ معدّل البطالة نحو 15%، وفق البيانات الرسمية. وكان الرئيس عبد المجيد تبون قد أعلن في فبراير/ شباط من العام الماضي عن "منحة" للعاطلين من العمل في الجزائر وبدأ صرفها في الشهر التالي.
وتتأثر الجزائر، بتقلّبات أسعار النفط بسبب اعتمادها على العائدات النفطية التي تمثّل أكثر من 90% من إيراداتها الخارجية. وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي وقّع تبون قانون المالية لعام 2023 الذي اعتمد سعراً مرجعياً للنفط بـ60 دولاراً للبرميل.
وتتوقع الميزانية بلوغ قيمة الصادرات 46.3 مليار دولار ونحو 36.9 مليار دولار للواردات، وبلوغ احتياطيات النقد الأجنبي 59,7 مليار دولار. ورصدت الحكومة موازنة ضخمة، بقيمة 13.76 تريليون دينار (نحو 98.5 مليار دولار)، بزيادة قدرها 24.5 مليار دولار عن موازنة 2022 التي بلغت 74 مليار دولار و36.5 مليار دولار عن موازنة 2021 البالغة 62 مليار دولار.