أحدث عام من الحرب في أوكرانيا أثره البالغ في مسار ازدهار العالم، لكن تأثيره الأعمق سيظهر في كيفية تحول الصراع إلى تحولات كانت بالفعل تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي. فماذا في تفاصيل هذه الإشكالية بعد سنة من حرب بلا هوادة يدفع ثمنها العالم تضخما وركودا.
فور بدئها، أضافت الحرب شكوكا جديدة إلى الصدمة الاقتصادية لوباء كورونا، الذي أدى فعلا إلى ارتفاع قياسي في الدين العام، وأحدث أزمات غلاء المعيشة بسبب التضخم ونقص العمالة في القطاعات الأساسية.
ثم جاءت العقوبات الاقتصادية على موسكو في الوقت الذي كانت فيه العقبات أمام التجارة العالمية تتصاعد بعد عصر العولمة المتسارعة، ولتساهم بقوة في غلاء مصادر الطاقة وضعف المعروض منها.
مدير الاقتصاد الجيولوجي العالمي في مجموعة أوراسيا الاستشارية روبرت كان قال إن "صدمة الحرب على الطلب والأسعار قد تلاشت في الاقتصاد العالمي، وبالتزامن مع كورونا وقرارات سياسية أخرى، أوجدت هذه الرياح المعاكسة للنمو، وأعتقد أن التأثير مستمر".
ودمرت الحرب الاقتصاد الأوكراني، وقلصته بمقدار الثلث، بينما بدأت العقوبات الآن في تجفيف شرايين اقتصاد روسيا من عائدات الطاقة والصادرات الأخرى، فيما من الصعب تحديد تأثيرها على بقية العالم.
وتجنب الجيران الأوروبيون حتى الآن التقنين الجماعي للطاقة وموجة الإفلاس التي كان يُخشى منها، بفضل الجهود المبذولة لبناء مخزونات الوقود وكبح الطلب على الطاقة.
وكانت أسعار الغذاء والطاقة العالمية ترتفع بالفعل مع خروج العالم من عمليات الإغلاق الوبائي لعام 2020، وما لبثت أن ارتفعت إلى أعلى بعد اندلاع الحرب، لكن العديد من المؤشرات الآن أقل من مستوياتها قبل عام.
ووجد المحللان زولت دارفاس وكاتارينا مارتينز، في دراسة في ديسمبر/كانون الأول الماضي صادرة عن مركز الأبحاث الأوروبي Bruegel: "أن أسعار الطاقة زادت في عام 2021 أكثر مما كانت عليه سنة 2022، ما يشير إلى أن الحرب والعقوبات لم تكن من أهم الدوافع".
وقد ساد التفاؤل في المنتدى الاقتصادي العالمي هذا العام في دافوس، بينما تراهن الأسواق المالية على أن الاقتصادات المتقدمة يمكنها تجنب الركود الشامل.
في غضون ذلك، يقدر صندوق النقد الدولي الآن أن الاقتصاد العالمي نما بنسبة 3.4% العام الماضي، وبالكاد أقل بنقطة مئوية واحدة مما كان متوقعا قبل بدء الحرب، وقبل أن تستهدف البنوك المركزية في العالم التضخم برفع أسعار الفائدة بشكل كبير.
ويسود ترقب لما إذا كان النمو العالمي يمكن أن يتطابق الآن مع توقعات الصندوق لعام 2023 والبالغة 2.9%، علما أن هذا التقدير الذي جرت ترقيته حديثا هو أعلى بكثير من توقعات الإجماع الأكثر تشاؤما بنسبة 2.1% لخبراء اقتصاديين في القطاع الخاص استطلعت "رويترز" آراءهم الشهر الماضي.
وثمة أمور أخرى مجهولة عالية الخطورة. فمع عدم اقتراب نهاية الحرب، يظل التهديد الرئيسي هو التصعيد، بما في ذلك استخدام روسيا أسلحة نووية في ساحة المعركة. وهذا من شأنه أن يأخذ التوقعات الخاصة بكل من الاقتصاد العالمي والسلام الأوسع نطاقا إلى المجهول.
وتطور تأثير الحرب على مصادر الطاقة التي تقود الاقتصاد العالمي حتى عام 2022، مع الاندفاع المبكر للوقود الأحفوري القديم مثل الفحم، تلاه دفع متزايد للاستثمار في الطاقات المتجددة التي يُنظر إليها أنها أقل عرضة للصدمات الجيوسياسية في المستقبل.
وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يساهم انخفاض صادرات النفط الروسية قريبا في تحقيق استقرار في الطلب العالمي على الوقود الأحفوري، وبالتالي يوفر إمكانية انتقال أسرع نحو الطاقة الخضراء.
لكن هذا لا يزال يتطلب أكثر من الاستثمار القياسي البالغ 1.4 تريليون دولار في الطاقة النظيفة الذي تتوقعه وكالة الطاقة الدولية لعام 2022. وبالنسبة للاقتصاد، فإن الخطر يكمن في أن أسعار الطاقة - وبالتالي التضخم - سوف ترتفع إذا لم يلبّى النقص.
وما يعنيه الصراع بالنسبة للتجارة العالمية غير واضح أيضا. فقد أدت الأزمة المالية لعام 2007/ 2008 والانتصارات الانتخابية للسياسيين المدافعين عن الحمائية إلى فرملة طفرة في العولمة، دامت نحو عقدين من الزمن وشهدت توسع النقل بالحاويات ودخول كل من روسيا والصين في نظام التجارة العالمي.
والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت العقوبات الغربية على روسيا، والتي تطوق فعليا ما كان يحتل المركز الحادي عشر بين أكبر اقتصاد في العالم، هي بداية إشكال إضافي، لأنها تقيّد الشركاء التجاريين الذي تعتبرهم حلفاء لموسكو.
وترى منظمة التجارة العالمية وآخرون خطر انقسام التجارة إلى كتل تجارية معادية، وهو سيناريو يعتبر صندوق النقد أنه يقلل ما يصل إلى 7% من الناتج العالمي.
وقد يكون أحد المحفزات المحتملة لذلك التحول نحو جولة واسعة من العقوبات الثانوية التي تستهدف ليس فقط روسيا، ولكن الشركات والمستثمرين الذين يتعاملون معها.
(رويترز، العربي الجديد)