المزارعون الفرنسيون في حالة غضب قصوى، وصلت إلى حد فرض حصار شامل على العاصمة لمدة أسبوع، وقطع الطرق المؤدية إليها من الاتجاهات كافة، وسط حالة تأييد وتعاطف شعبي غير مسبوق مع المطالب التي رفعوها.
كان ينقص الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أن يتحرك المزارعون فقط، لتكتمل دائرة الاحتجاجات ضده، فهو ما كاد يهرب من مواجهة الإضرابات العمالية، حتى وجد نفسه أمام حركة أوسع وأكثر تنظيماً وديمومة.
حركة المزارعين ليست عبارة عن إضراب في قطاع محدد، يمكن للدولة أن تواجهه سواء بالحصار، أو تجاهله حتى ينتهي من تلقاء نفسه، بل هي تمس الأهالي مباشرة لأنها تتعلق بقوتهم اليومي، ويمكن لها إذا تطورت أن تتحول إلى أزمة عامة.
ظهرت الحركة، التي بدأت في الثلث الأخير من الشهر الماضي، منظمة على نحو أثار الإعجاب، وبدا أن المزارعين قد استعدوا للقيام بالتحرك الواسع منذ فترة طويلة، وحضروا له ليكون ناجحاً ومؤثراً، ويصل إلى الرأي العام في فرنسا وأوروبا.
عدة آلاف من الجرارات والآلات الزراعية، تزحف نحو باريس منذ عدة أيام، قبل أن تصل في التاسع والعشرين من الشهر الماضي إلى مشارفها، كي يتم نصب خيام الإقامة المؤقتة للنوم والطعام والطبابة والاجتماعات.
يظهر التنظيم كأن جيشا حديثا بأكمله تحرك، وانتقل إلى جبهة جديدة، بانتظار خوض معركة حاسمة، وبدأ يجهز نفسه لساعة الصفر، ولذلك حسب لكل نقطة الحساب الكامل، بما في ذلك أن المعركة قد تطول.
جرى الاستعداد لهذا الحراك منذ عدة أشهر، بعد فشل أكثر من جولة مفاوضات بين الدولة والمزارعين، بسبب السقف العالي لمطالب المزارعين، وعدم تلبية الحكومة للحد الأدنى من المطالب المتعلقة بأسعار الوقود والضرائب العالية.
ارتأت أغلبية الهيئات التنظيمية للحركة الاحتجاجية ضرورة النزول إلى الشارع بقوة، وطرح المطالب كافة على طاولة الحكومة الفرنسية الجديدة، التي تبدو أكثر تشدداً من سابقاتها، وأقل اهتماماً بالقطاع الزراعي، ومعاناته إزاء المنافسة في السوق المحلي، من قبل المنتجات الإسبانية، على وجه التحديد.
القضايا التي طرحها المزارعون كثيرة ومتشعبة تراكمت على مدى عدة عقود، منها ما يرجع إلى قوانين الاتحاد الأوروبي، والبعض الآخر سببه تراجع الاهتمام بالقطاع الزراعي من منظور العولمة، كما حصل بخصوص الصناعة المحلية في الثمانينيات، والتي تم بمقتضاها نقل المصانع للخارج، تحت ذريعة أجور اليد العاملة وارتفاع أسعار المواد الأولية.
تعد قوانين الاتحاد الأوروبي مجحفة بحق القطاع الزراعي الفرنسي، لأنه أعطى الأولوية لإسبانيا على حساب فرنسا من أجل تلبية حاجات الأسواق الأوروبية، واعتبر الفرنسيون المسألة تمييزية لأن فرنسا بلد زراعي في الأصل، وهي سابقة لإسبانيا على صعيد تنظيم الزراعة، وتطوير الأنظمة والمعارف الخاصة بها.
وأدى هذا الإجراء إلى نتائج كارثية على الزراعة الفرنسية، فقد أغلق أمامها طريق الأسواق الأوروبية، وحرم المزارعين الفرنسيين من الدعم الذي يوفره الاتحاد الأوروبي للمزارعين، وفتح مجال تنافس غير عادل في السوق الفرنسية، بين المنتجات الفرنسية والإسبانية، وتلك المستوردة من خارج الاتحاد الأوروبي.
يقول المزارعون الفرنسيون وأوساط الخبراء، إن إسبانيا اكتسحت الأسواق الأوروبية نتيجة الدعم الكبير من الاتحاد الأوروبي للمزارعين، وعدم التزام هؤلاء بالمعايير الأوروبية فيما يتعلق بالبيئة واستخدام الأسمدة الكيماوية، ولذلك يقدمون منتجات بأسعار أقل، ولكنها متدنية الجودة وضارة صحياً، لأنها مشبعة بالمواد الكيماوية.
وإلى جانب ذلك برز في العامين الأخيرين طرف منافس آخر هو أوكرانيا التي تم إعطاء منتجاتها تسهيلات داخل الأسواق الأوروبية، وخاصة الحبوب من قمح وذرة وعلف الحيوانات، فاكتسحت الأسواق بسبب رخص الأسعار التي تقدمها.
ما يطالب به المزارعون الفرنسيون هو تصحيح الوضع القائم لجهة تعديل القوانين الأوروبية، وإيلاء الدولة الفرنسية الزراعة الاهتمام الكافي، من ضمانات وتخفيف الضرائب وأسعار الوقود، والتراجع عن اتفاقية التبادل الحر مع دول أميركا اللاتينية، التي ستغرق الأسواق بالمنتجات الأقل سعراً، وخاصة اللحوم المستوردة من البرازيل والأرجنتين.
واللافت حيال الحراك الجديد هو الحضور الإعلامي الكبير المحلي والأجنبي، وتفاعل الرأي العام داخل فرنسا وأوروبا مع تحركات المزارعين، والنقطة الثالثة هي سرعة رد فعل الحكومة التي تحركت محلياً وأوروبيا لإيجاد حل من أجل رفع الحصار عن باريس.
أطلقت وسائل الإعلام على التحركات منذ البداية اسم "الانتفاضة"، وندر أن وجد تحرك شعبي ضد الحكومة بهذا القدر من التأييد، من قبل وسائل الإعلام، بما فيها الرسمية التي لم تهاجم الحراك، وقامت بتغطيته على نطاق واسع.
وأبرز نقطة في التغطية الإعلامية هي الضرب على وتر المصلحة الوطنية، باعتبار الزراعة قطاعاً أساسياً وحيوياً في بلد يعتز بتاريخ الأرض، وعلاقة الناس بها، وخصوصيات الطعام، وما يمثله الريف من حضور في المخيال الشعبي العام.
وبدا للحظة أن السياسة اختلطت بالمشاعر، مما حرك قطاعات لم يكن تصلها تحركات المزارعين السابقة، ولذا بدت الحكومة محرجة في الأيام الأولى من الحراك تجاه اللجوء إلى إجراءات ذات طابع ردعي أو استخدام القوة، ولذا لقي توقيف مجموعة من المزارعين في اليوم الثالث من الحراك، ردود فعل استنكارية واسعة.
ومن أهم النقاط التي ساهمت بالالتفاف الإعلامي، هي أن الحراك تم بصورة هادئة ولم تحصل أحداث عنف أو صدامات مع أجهزة الأمن، كما يجري عادة في المظاهرات داخل العاصمة، والتي لا تمر من دون أعمال شغب.
استياء واسع في أوساط الرأي العام من الاعتقالات التي تعرض لها عدد من المزارعين، ورفض كامل لتصرفات وزير الداخلية جيرالد درامانان، وطريقته في التعاطي مع الانتفاضة. ومعاملة المزارعين كخارجين عن القانون، وحشد أكثر من 15 ألف شرطي لمواجهة الحراك.
تعامل دارمانان مع المزارعين أثار المخاوف من أنه سيعيد أسلوب تعامله مع "السترات الصفراء"، والذي قاد إلى تصعيد الاحتجاجات وتحويلها إلى أحداث عنف، مما خلق شرخاً بينها وبين الشارع، الذي صار ينظر إليها كحركة فوضوية ضد المجتمع.
وهناك نقطة أخرى ذات أهمية وهي شمولية الحراك، الذي لم يقتصر على منطقة واحدة، بل شمل فرنسا بأكملها، وكان الأبرز في مدينتي باريس وليون، شارك فيه ما يتجاوز 10 آلاف مزارع، مما حول المسألة إلى قضية وطنية، تتعلق بمستقبل الزراعة في هذا البلد، بوصفها آخر معاقل السيادة الوطنية التي فرطت بها الحكومات الفرنسية السابقة، وسلمت أمرها لسلطة الخبراء التكنوقراط في الاتحاد الأوروبي.
خسرت فرنسا الصناعات الصغيرة والمتوسطة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وجرى نقل المصانع للخارج، وتشهد منذ عقد أو أكثر تراجع الأراضي الزراعية، بسبب الضرائب العالية، وهي الأعلى في العالم في بلد يعد نفسه زراعياً بالدرجة الأولى، ويعلي من قيمة الفلاحين والقرية في الأدب والثقافة. وهناك بيع أراض زراعية رابحة، تعد الأرخص سعراً في أوروبا.
أصبحت الزراعة مكلفة حسب المواصفات الأوروبية، وباتت أسعار المنتجات الزراعية عالية في السوق المحلية، وبات المواطن يفضل السلع الرخيصة حتى لو كانت لا تحمل نفس المواصفات المحلية.
السبب في ذلك هو الضرائب العالية وأسعار الوقود وفرض رقابة عالية بخصوص الأسمدة الكيماوية، وفوق ذلك التلاعب بالأسعار من قبل الوسطاء، الذين يسجلون نسبة من الأرباح تتجاوز عائدات المزارعين.
لم تقتصر حركة الاحتجاج على فرنسا، إذ شهدت كذلك ألمانيا وبولندا ورومانيا وبلجيكا مظاهرات في الأسابيع الأخيرة، وبالتزامن مع فرنسا تحرك المزارعون في كل من إسبانيا والبرتغال واليونان، تحت شعار "الزراعة تحتضر".
وتكررت نفس المطالب والانتقادات في أغلب البلدان الأوروبية، التي تواجه غضب المزارعين: السياسة الأوروبية معقدة للغاية، الأرباح منخفضة بشدة، التضخم مرتفع، والمنافسة الأجنبية وخاصة من المنتجات الأوكرانية غير منصفة، في ظل ارتفاع أسعار الوقود.
ما حصل عليه المزارعون الفرنسيون قبل أن يرفعوا الحصار عن المدن، ويرجعوا إلى قراهم، هو عبارة عن مكاسب من نوعين: الأول هو أنها مؤقتة على سبيل تهدئة الموقف وامتصاص الغضب. والثاني هو في إطار الوعود التي سوف تتبخر بمجرد حصول تعديل حكومي.
وأحد أهداف ماكرون من ذلك توجيه رسالة للشارع بأن حكومته الجديدة ليست عاجزة عن إدارة البلد، وهو قادر على إيجاد الحلول للأزمات، ولم يصل إلى طريق مسدود، غير أن الرأي العام يدرك أنه لا يملك استراتيجية أو مشروعا للحكم، ويمضي الوقت بمعالجة الأزمات.
أزمة وراء أخرى، هذا ما يلخص حكم ماكرون في ولايتيه الأولى والثانية، وصار واضحاً أنه من أضعف الرؤساء الذين حكموا فرنسا، وتأتي انتفاضة المزارعين لتنضاف إلى سلسلة التحركات العمالية ضد قانون التقاعد الذي أقرته الحكومة السابقة من دون المرور في البرلمان.
ومن أهم المشاكل التي يواجهها ماكرون في ولايته الحالية هي أنه لا يمتلك أكثرية برلمانية، الأمر الذي انعكس في ضعف حكومته الأخيرة التي شكلها الشهر الماضي. ورغم إدراكه أن الحل يكمن في الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة، إلا أنه يخشى حصول مفاجآت.