أظهرت البيانات التي أعلنتها الحكومة الأميركية الأسبوع الماضي استمرار الشركات في إضافة الوظائف بأعداد كبيرة، كما ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي أكثر من التوقعات، وعاودت أسعار المنازل الارتفاع على المستوى الوطني بعد أشهر من الانخفاض، ليتأكد استمرار قوة الاقتصاد الأميركي، رغم تعرضه لأكبر حملة لرفع الفائدة في عقود، الأمر الذي يعقد بصورة كبيرة الموقف أمام البنك الفيدرالي عند اتخاذ قراره الأسبوع القادم.
ويشير استمرار قوة الاقتصاد الأميركي حتى الآن إلى إمكانية مضي البنك المركزي الأكبر في العالم قدماً في سياسة التشديد، من خلال رفعات صغيرة للفائدة، وربما على فترات متباعدة، بحيث لا يكون هناك رفع في كل اجتماع، من أجل القضاء التام على التضخم الذي مازال يفرض كلمته على البلاد.
ورغم التوقعات السابقة من المحللين بتعرض الاقتصاد الأميركي لتباطؤ حاد، مع الرفع المتتالي لمعدلات الفائدة، تشير الأرقام المعلنة إلى أن سياسة البنك لم تضغط بالقوة الكافية على مكابح النمو، حتى الآن، وهو ما قد يدفع البنك الفيدرالي للاستمرار في التشديد.
وفي مقال حديث نشرته جريدة نيويورك تايمز الأميركية، اعتبرت جينا سميالك، المحللة الاقتصادية المتخصصة في متابعة سياسات البنك الفيدرالي، أن استمرار الشركات في رفع أسعارها دون خسارة العملاء وبقاء الطلب قوياً ربما يؤدي إلى "بقاء التضخم شديد الارتفاع، ما يجبر المستهلكين على دفع المزيد مقابل خدمات الفنادق والطعام ورعاية الأطفال، وهنا يصبح البنك الفيدرالي مجبرًا على فعل المزيد من أجل تقييد النمو".
وأشار مسؤولو البنك الفيدرالي، في أكثر من مناسبة، إلى حاجتهم لمزيد من الوقت لرؤية التأثير الفعلي لرفع معدلات الفائدة على الأسعار والأسواق، ومن ثم للتمكن من توقع السيناريو الأكثر احتمالية، حتى يتجنبوا المبالغة في رد الفعل، والتسبب في آلام اقتصادية غير مطلوبة، أو يكون مستوى رد فعلهم أقل من القدر المطلوب، ما قد يتسبب في بقاء التضخم على ارتفاعه.
وتقول سميالك إن أسعار الفائدة المرتفعة قد تستغرق شهورًا أو حتى سنوات، حتى يظهر تأثيرها الكامل، إلا أن تأثيرها يظهر عادة سريعاً في إبطاء أسواق السيارات والإسكان، وكلاهما يدور حول عمليات الشراء الكبيرة، التي تتم بأموال مقترضة.
ويراهن المستثمرون حالياً على "تجاوز" البنك الفيدرالي رفع الفائدة في اجتماعه الأسبوع القادم، قبل رفعها مرة أخرى في الاجتماع التالي في يوليو/تموز، مع التأكيد على أن هذا التجاوز لا يعني التوقف نهائيًا، في إشارة إلى أنهم مصممون على السيطرة على الأسعار.
ووصلت أسعار الفائدة لأعلى نقطة لها عند نطاق 5% - 5.25%، وهو أعلى مستوى للفائدة على الأموال الفيدرالية تشهدها البلاد منذ عام 2007.
وبعد تعديل السياسات بشكل حاد على مدار الخمسة عشر شهرًا الماضية، ألمح المسؤولون الرئيسيون بالبنك، بمن فيهم جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي، وفيليب جيفرسون، الذي رشحه الرئيس الأميركي جو بايدن نائبا لرئيس البنك، إلى إمكانية التوقف المؤقت عن الرفع، لإتاحة الوقت لأنفسهم للحكم على ما أحدثته الزيادات المتتالية، وتقييم مدى تأثيرها على قوة الاقتصاد.
لكن هذا التقييم لا يزال معقدًا، حتى أن بعض قطاعات الاقتصاد التي تتباطأ عادةً عندما يرفع البنك الفيدرالي أسعار الفائدة أظهرت قدرة مفاجئة حتى الآن على تحمل أسعار الفائدة.
وانقسم مسؤولو البنك الفيدرالي حول رفع أسعار الفائدة في اجتماع البنك الأسبوع المقبل، ففي حين رأى البعض أنه مع ارتفاع التضخم في إبريل/نيسان، واستمرار سوق العمل على قوتها، تجب مواصلة رفع الفائدة لقمع الطلب وخفض التضخم، رأى بعض الأعضاء ضرورة الإيقاف المؤقت من أجل إعطاء البنك الفيدرالي الفرصة لتقييم التأثير الاقتصادي لارتفاع الفائدة، وتشديد شروط الائتمان.
وظهرت بعض هذه الانقسامات في آخر اجتماع للبنك في مايو/أيار، وفقا لمحضر الاجتماع المنشور لاحقاً.
وقال رئيس البنك الفيدرالي في سانت لويس جيمس بولارد إن البنك يجب أن يقوم برفع أسعار الفائدة مرتين أخيرتين، كما قالت رئيسة البنك في دالاس لوري لوغان إن التوقف المؤقت ليس في الحسبان، على الرغم من أنها قالت إن ذلك قد يتغير اعتمادًا على البيانات الواردة.
ومن بين أولئك الذين يدعمون فكرة التوقف المؤقت أو التخطي رئيسة البنك الفيدرالي في بوسطن سوزان كولينز، التي قالت إن البنك المركزي قد يكون "عند أو بالقرب من" نقطة يمكن أن يوقف فيها رفع أسعار الفائدة مؤقتًا، بسبب "الإشارات الواعدة" إلى أن التضخم يتراجع.
كما أعلن رئيس البنك الفيدرالي في فيلادلفيا باتريك هاركر، الأسبوع الماضي، انضمامه إلى معسكر "تخطي رفع أسعار الفائدة"، مؤكداً أنه يعتقد أن سياسة تشديد البنك الفيدرالي قريبة من إتمام مهمتها.
وقال ماثيو لوزيتي، كبير الاقتصاديين الأميركيين في "دويتشه بنك" لصحيفة نيويورك تايمز، إن الصورة معقدة للغاية اعتمادًا على نقاط البيانات التي يتابعها، مشيرًا إلى أن أرقام النمو الإجمالية، مثل الناتج المحلي الإجمالي، قد تباطأت، "إلا أن الأرقام الرئيسية الأخرى لا تزال ثابتة".
وتباطأت سوق السيارات منذ أن بدأ البنك الفيدرالي في رفع سعر الفائدة، لكن هذه السوق كانت تعاني نقصاً شديدا في المعروض خلال السنوات الأخيرة، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى مشاكل سلاسل التوريد المرتبطة بالوباء، فمرت تهدئة السوق بصعوبات.
وضعفت أيضاً سوق الإسكان بشكل ملحوظ العام الماضي، مع ارتفاع معدلات الرهن العقاري. لكن الأسعار عاودت الارتفاع مؤخرا بسبب تراجع المعروض. وفي حين لا تدخل أسعار المنازل بشكل مباشر في مقياس التضخم، إلا أن تحولها للارتفاع هو علامة على أن الأمر يتطلب الكثير لتهدئة الاقتصاد بشكل مستدام.
وفي حين يبقى التضخم أكبر ورقة يمكن أن تشكل خطط البنك الفيدرالي هذا الشهر وخلال الاجتماعات المقبلة، توقع مسؤولو البنك في مارس/آذار تراجع التضخم السنوي، اعتمادا على مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي المفضل لدى البنك الفيدرالي، إلى 3.3% بحلول نهاية العام.
ويشار إلى أن هذا التراجع يحدث بشكل تدريجي، حيث بلغ معدل التضخم 4.4 % في إبريل، انخفاضًا من 7% في الصيف الماضي، لكنه لا يزال أكثر من ضعف هدف البنك الفيدرالي البالغ 2%.
وسيتلقى المسؤولون قراءة ذات صلة وأكثر حداثة للتضخم لشهر مايو/أيار، وهي مؤشر أسعار المستهلكين، في اليوم الأول من اجتماعاتهم الأسبوع المقبل، الثلاثاء، على أن يتم إعلان قرار البنك في اليوم التالي.