"أخبار العالم" لبول غرينغراس: ولادة أميركا الجديدة بلغة الوسترن

16 ابريل 2021
توم هانكس وبول غرينغراس: فهم الماضي لفهم الحاضر (كريغ بارّيت/ Getty)
+ الخط -

 

بدءاً من اللقطة الأولى: كيف تبدو الحالة على الأرض؟ تظهر مخلّفات ما جرى على ظهر البطل وفي طريقه، كما في "أخبار العالم (News Of The World)" لبول غرينغراس ("نتفليكس"، منذ 10 فبراير/ شباط 2021). ما جرى حدثٌ عظيم. التراجيديا خارج الكادر. لكنْ، ما تبع تلك التراجيديا يصوغ مستقبلاً مختلفاً. جاء الألم كنتيجة.

هذا راعي بقر بطبعة ما بعد حرب الانفصال الأميركية (1861 ـ 1865). ضابط سابق، يتحرّك في فضاء دولتي لا في فضاء فوضى. هناك قوانين دولة تحدِّد الحقّ والواجب. يشبه بطل الفيلم (توم هانكس)، على صعيد المظهر، أبطال أفلام الـ"وسترن"، لكنّه يلتزم قانون الدولة لا قانون ذراعه.

شيخٌ وطفلة في رحلة بالجنوب الأميركي، تقدّم مقطعاً في زمن محدّد. بعد 6 دقائق، حدّد المخرجُ المكانَ، وعرض الشخصيات الرئيسية، وأطلق الحبكة. بينما تبقى الطفلة في الانتظار لربط مَشاهد الفيلم، ترافق الكاميرا البطل على ظهر فرسه، لرصد ولادة أميركا الجديدة، بعد الدم الذي سال.

يؤدّي توم هانكس الدور كأنّه ولد فيه. تصعب ملاحظة جهد الأداء من فرط الإتقان. أحياناً، لا يجري شيءٌ مهمّ في المَشاهد، لكنّ حضور الممثل وطريقة أدائه لمشاعره ممتعة. جسّد هانكس بمهارة الأبعاد الأربعة للطبيعة البشرية: البدني والروحي والعقلي والاجتماعي العاطفي. هذا السهل الممتنع لا يتقنه إلا الممثّلون الكبار. قدّم هيبة شيخ، في السبعين من عمره، بوجه معبّر ومؤثّر وجذّاب. تعبّر الكاميرا عن مدى إعجاب المخرج بالممثل، الذي عمل معه في "الكابتن فيليب" (2013).

يقدّم هانكس (65 عاماً) سيرة بطل، يحمل تاريخه على جلد ظهره. في تفسيره سلوك الشخصية، يكشف غرينغراس سبباً ظلّ مجهولاً لسلوك الضابط العجوز: الذين لا يملكون وجهة محدّدة، ويتوفّرون على وقت فراغ كبير، يعبّرون عن جهوزية أكبر للتضحية من أجل الآخرين. التفسير منح المتفرّج مفاتيح فهم ما وقع.

البطل قارئ أخبار جوّال، ينشر الأخبار ويناقشها لتشكيل الرأي العام. يحضر جرائده بخشوع، كأنّها سجادة صلاة. أحياناً، يتحوّل ناقل الأخبار إلى طرفٍ في النقاش. في المجادلات، يكتشف نظرية جديدة في التلقّي. يجب سرد ما يريده الجمهور لإحداث الأثر. يتّضح أنّ تقديم الخبر الصحفي شفهياً يتطلّب مهارة حكائية في صوغ المحتوى، وفي نبرة الإلقاء. حين تثير الأخبار صراعاً، يتحوّل قارئ الأخبار من إعلامي إلى سياسي، يوجّه النقاش لتشكيل رأي عام ضروري في دولة ديمقراطية. مع الزمن، يتعلّم الأخباريّ تجنّب قراءة الأخبار المحلية، التي تخصّ المدينة التي يعْبرها، لأنّها مملّة للسكّان، وتثير حفيظتهم. الجمهور يستمتع بالاستماع إلى أخبار المدن البعيدة.

 

 

أول خبر: وباء الـ"مينانجيت (التهاب السحايا)" يجتاح أميركا، بينما النزاع بين الولايات على أشدّه. يذكّر جدل 1870 بوباء أميركا وجدالاتها في 2020. جدل يساهم فيه ضابط وطني متعاطف مع الهنود الحمر. فيلمٌ تاريخي يفيد في قراءة الحاضر. لا معنى لأيّ فيلمٍ تاريخي من دون قراءة الحاضر، لأنّ الزمن الحيّ بالنسبة إلى المُشاهد هو الآن.

الفيلم، بحسب الجينريك، استلهامٌ لا اقتباس لرواية "أخبار العالم"، لبوليت جيل. ما الذي يجعل رواية تستحقّ أن تُصوَّر فيلماً؟ هذا موضوع آخر.

في الرحلة الشخصية للبطل، يتشكّل مشهد عام. في الطريق، يكتشف الضابط أنّ نتيجة الحرب ليست مرضية للجميع. حَلّ السلام، لكنّ الكاميرا لا تحبّ الهدوء. الحركة في المكان تخلق الدراما. لرفع الإيقاع في الطريق، تمّ إقحام مُطاردة جبلية صعبة، سمحت للكاميرا بالتموقع فوق الشخصيات وتحتها. يتّضح أثناء الرحلة أنّ الدم لا يزال طازجاً على الجدران، ويُحتمل أنْ يسيل مجدّداً. هناك دولة تتشكّل.

بمحاولة تصنيف الفيلم، يظهر أنّ بول غرينغراس يتحرّك ضمن نوع فيلمي مشهور (وسترن)، مع انزياحات صغيرة عن سنن النوع، كي لا يتيه المتفرّج المعتاد على خصائص النوع الفيلمي.

في تلك الرحلة، يكتشف المتفرّج الفضاء والزمن وصورة الإنسان. بينما تجتاز الكاميرا البراري، تسترجع حكايات أو توحي بها، لتُنشِّط خيال المتفرّج ووجدانه. تشبه رحلة اكتشاف الجنوب عام 1870، التي قام بها عازف بيانو أسود في جنوب أميركا عام 1970، في "كتاب أخضر (Green Book)" لبيتر فارلي (2018). لتقديم هذا الماضي بدقّة، يصوّر غرينغراس مهنة ضابط يتجوّل في قرى الجنوب. المهنة وسيلة المخرج لتقديم معلومات عن المرحلة. هكذا حرّر المخرج نفسه من عبء تصوير المعلومات التي تتلى. جعلت قراءة الأخبار السياق مسموعاً. النتيجة؟ تقليل كلفة التصوير، إضافة إلى إتاحة الفرصة للكاميرا لتركّز على البطل والطفلة. هكذا لا يتشتّت موضوع اللقطات.

للفيلم خطّان: خطّ الطفلة المفقودة، وخطّ قارئ الأخبار الجوّال. طفلة بهوية هجينة، أوروبية وهندية حمراء. تصالح الهنديّ مع الأوروبيّ الوافد. لا تفهم الطفلة لغة الضابط، لكنّ لغة الجسد وملامح الوجه تطمئنها بأنّها لا تواجه خطراً. انتهت حرب الانفصال، التي ألغت العبودية. لكنّ صراع الولايات لم يتوقّف. في "كتاب أخضر"، أُلغيت العبودية منذ قرن، لكنّ العنصرية كانت لا تزال تسري في الجنوب الأميركي.

هكذا يساعد فهم الماضي على فهم الحاضر. هذا أفقٌ جيّد للأفلام التاريخية.

المساهمون