"أفلاطون" في أيرلندا: بساطة بصرية وعمق إنساني

05 أكتوبر 2022
كفن ماكَرِفاي وبعض تلامذته في "أفلاطون الشاب" (الموقع الإلكتروني للفيلم)
+ الخط -

 

يستحيل أنْ يتغيّر الحمض النووي (DNA)، تماماً كاستحالة أنْ يتغيّر التاريخ. تعبيرٌ يُقال في صفّ مدرسيّ، يُشرف عليه كفن ماكَرِفاي، مدير "مدرسة الصليب المقدّس للصبيان"، في مدينة "أرْدوين"، في شمالي بلفاست الأيرلندية. يعتمد ماكَرِفاي أسلوباً يمزج التعليم بالتحفيز على الحوار والنقاش. يستند إلى الفلسفة، كي يحثّ تلامذته الصغار على إعمال العقل، وفهم الذات والعلاقة بالآخر، وهذه الأخيرة أساسية، فالمدينة مُقيمة في تاريخ مُثقل بحروب ونزاعات وخراب وتمزّقات، والتلامذة يُعانون ثقل الذاكرة/التاريخ، لكنّهم يتمرّنون على لجم الغضب والتعصّب والانغلاق، وبعضهم يرفض المثول أمام ذاكرة التاريخ، فالآخر، بالنسبة إليه، قريبٌ وليس غريباً.

يحصل هذا في "أفلاطون الشاب" (2021)، لنِسا ني شانِآن ودكْلِن ماكْغراث، المعروض في افتتاح الدورة الـ6 (2 ـ 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2022) لـ"كرامة بيروت، مهرجان أفلام حقوق الإنسان". ماكَرِفاي فنان في تواصله مع التلامذة. يُدرك خصوصية كلّ واحد منهم، فيتمكّن من بلوغ الأعمق فيهم، عبر الكلام والحوار. لا تلقين إطلاقاً. هذا معروف في الثقافة الغربيّة، الخاصّة بالتربية والتعليم. هذا ينسحب على من يعمل معه أيضاً. فلكلّ تلميذٍ عالمٌ، وهذا يجعل المُدرسين/المُدرسات يتفنّنون في ابتكار أفضل لغة للحوار والتواصل.

يعشق كفن ماكَرِفاي الفلسفة والتعليم، كعشقه إلفيس بريسلي، الذي تُزيّن صورٌ له وألعاب تمثّله غرفة المكتب. يلتقي أهل التلامذة، فتحضر النكتة أحياناً، ما يُشيع مناخاً مُريحاً يُسهِّل التفاهم بين الجميع. تاريخ أيرلندا، بحروبها الكثيرة بين البروتستانت والكاثوليك تحديداً، حاضرٌ في الراهن، بعنفٍ وقوّة أحياناً. ملصقات ورسوم وشعارات، بأحجامٍ مختلفة، منتشرة في شوارع وأزقّة. ما يُشبه "جدار برلين" يظهر في لقطات مُصوّرة بالـ"درون" (نِسا ني شانِآن)، تكشف، في الوقت نفسه، مدينة تمتدّ في جغرافيّتها البسيطة، وفي تاريخها المُشبع بالآلام والقلق والدمار.

التاريخ نفسه ينفلش أمام التلامذة، عبر صُور فوتوغرافية، ينتبه بعضهم إلى ما فيها من آثار حربٍ، وهذا البعض يعرف راهن مكان تلك الآثار. باصٌ للمدرسة يسدّ زقاقاً، فيروي أستاذٌ حكاية تلك اللحظة، المختصرة بكون الباص حاجزاً لحماية الناس السائرين على أقدامهم من رصاصٍ. صورة كهذه تُحيل إلى صُور أخرى، توثِّق ذاك الماضي، وشيءٌ منه غير بعيد عن راهن التلامذة وأهلهم. فالحرب المزمنة بين الطائفتين المسيحيتين نواة تفكيرٍ عصريّ يريد للتلامذة (في بدايات مُراهقتهم) فهمها، واكتشاف تأثيراتها، ما يؤدّي بهم إلى إدراك عواقبها، وبعض تلك التأثيرات والعواقب يُناقَش في الصف.

 

 

أشرطة مُصوَّرة تُبَثّ سريعاً في مطلع "أفلاطون الشاب"، لإظهار حالةٍ يختلط فيها هلع أهل وتلامذة في ماضٍ غير بعيد، بتبيانٍ سريعٍ (غير متسرّع) لشيءٍ من ذاك الماضي. بثّ الأشرطة يترافق وراهن المدينة ومدرستها، فالكاميرا، في البداية، تُرافق كفن ماكَرِفاي، الذي يقود سيارته مستمعاً إلى مغنّيه المفضَّل، عابراً شوارع قليلة قبل وصوله إلى المدرسة. شوارع ستكون نفسها في الأشرطة المُصوّرة، لكنْ في لحظات حربٍ وأوجاعٍ، يُراد لها (اللحظات) حضور دائم في وعي ومعرفة وفهمٍ، يُتدرَّب عليها (الوعي والمعرفة والفهم) بالحوار الدائم، والتمرين على عدم الخضوع للغضب والعصبيّة والانغلاق.

التوليف (فيليب رافوت) المعمول به يُريح مُشاهدةً تبغي تنبّهاً أكبر وأعمق إلى مضمونٍ، مشغول بهدوء حائكٍ أو صائغٍ. الكلام جوهر نصٍّ مكتوبٍ بلغة مبسّطة ومفهومة، وإنْ بلهجة أيرلندية، لن تحول دون متابعة دقيقة ومؤثّرة لما فيه من بلاغة قولٍ وتربية وسلوك، مع أنّ "الترجمة" إلى اللغة الإنكليزية، الضرورية بالتأكيد، تُسبِّب إزعاجاً قليلاً، فالكلام محمَّل بتفاصيل تتطلّب دقّةً في متابعة المسار، الحياتي والتربوي والنفسي تحديداً، لتلامذةٍ يمرّون في سنٍّ مُقلقة، والوضع العام، ماضياً وحاضراً، يُزيد من ارتباكهم وقلقهم وتساؤلاتهم؛ ولكفن ماكَرِفاي، وللآخرين والأخريات.

رغم هذا، يتمكّن الاشتغال البصري، بتواضعه وسلاسته وبساطته، من كشف حكاية أفرادٍ يواجهون مصاعب وتحدّيات جمّة، ومن رصد نبض شارع ونَفْسٍ وأزمنةٍ، ومن توثيق راهنٍ وأناسه في عمرٍ حسّاس ومتطلِّب. الفلسفة، بما فيها من قدرة على تفكيك روح وذات وبيئة، تحيط التلامذة بمخزونٍ يحثّ على التفكير، والفضل بذلك عائدٌ إلى المدير ماكَرِفاي، المرح والمتمكّن من إشاعة مناخٍ آمنٍ للتلامذة والأهل، فيجهد في إزالة مخاوف واضطرابات تنبثق من حالاتٍ عدّة، سيكون للماضي الأيرلندي حيّزاً كبيراً فيها، وهذا دافعٌ له إلى ابتكار مسائل مختلفة لتمكين التلامذة من امتلاك الوعي والمعرفة والفهم.

"أفلاطون الشاب" وثيقة بصرية تُجازف بفنّ السينما لصُنع شهادة فنية عن تجربةٍ وتاريخٍ وعلاقة ونفوس وحالات.

المساهمون