"أنا جميع الفتيات": تشويقٌ بوليسي تُعطّله خاتمةٌ تقليدية

"أنا جميع الفتيات": تشويقٌ بوليسي تُعطّله خاتمةٌ تقليدية

03 سبتمبر 2021
دونوفان مارش: وقائع مروية سينمائياً (مونيكا شيبّر/ Getty)
+ الخط -

يُقدِّم "أنا جميع الفتيات" (2021، 107 دقائق، "نتفليكس")، لدونوفان مارش (جنوب أفريقيا)، نفسه منذ البداية، بالقول إنّه "مستوحى من أحداثٍ حقيقية". كأنّ القول كافٍ لتحييد الفيلم عن أي موقفٍ يُستشفّ منه، إزاء شخصياتٍ سياسية ودينية واجتماعية فاعلة في بيئتها، ومتورّطة بجُرم الاتّجار بالبشر مع "دول في منطقة الشرق الأوسط" أو "إيران"، كما يقول المتّهم الأساسيّ شرْت دي ياخر (ياي باي دو بْلاسِّي) في اعترافاته المسجّلة، صوتاً وصورة، في السجن، مع أنّ الشخصيات القليلة، التي تظهر عند تحقيق الصفقة (فتيات صغيرات السن، بيضاوات وسوداوت، في مقابل النفط) ترتدي زيّاً خليجياً (الأفعال الجُرمية تحصل عام 1994 في جوهانسبورغ، كما يُشار في بداية السرد الدرامي، علماً أنّ الأحداث الدرامية تشهدها المدينة نفسها حالياً، من دون تحديد عام حدوثها).

صفقات غير شرعية يُشارك فيها مسؤولون في الحزب الوطني الحاكم، وتجارة جُرمية بامتياز، يُرافقها تعذيبٌ جسدي، واعتداءٌ يبلغ مرحلة الاغتصاب والقتل أحياناً. إحالة الحبكة الدرامية الأساسية، وتفاصيل عدّة فيها، إلى "أحداثٍ حقيقية"، لن تبقى مجرّد تحييدٍ إزاء موقفٍ أو رأي، إذْ تعكس غالباً وقائعَ متداولة، وإنْ تبقى معلّقة، لعجزٍ عن إثبات تهمة، أو عن تأكيدٍ وافٍ لواقعية الأحداث وحقائقها.

في "أنا جميع الفتيات"، ينتقل الحدث من "حقيقةٍ" إلى عالمٍ سينمائي، يجمع التحقيق البوليسي بالتشويق الذي يبلغ مرتبة الـ"ثريلر"، ويعكس ـ في الوقت نفسه ـ مأزق مُحقِّقة بيضاء في علاقتها بالقيادة الأمنية (المسؤول عنها أسود البشرة)، في اجتماعٍ غير متحرّر كلّياً من سطوة تاريخه، المثقل بالعنصرية والتمزّق والانشقاقات (يظهر هذا مثلاً في مشهدٍ مهمّ بدلالته: المسؤول الأسود يُقيم في منطقةٍ، يبدو أنّه ممنوع على البيض دخولها).

التسجيل المذكور يختفي وقتاً طويلاً، إذْ ترفض السلطة الأمنية البوليسية نشره، أو الاستناد إليه في إلقاء القبض على متورّطين في الجريمة. شرْت دي ياخر يخشى ذكر اسم المسؤول السياسي الأبرز، لقناعته بأنّه سيُقتل في زنزانته، إنْ يتفوّه باسمه. التسجيل معروف لدى قلّة من الشرطيين والمحقّقين، لكنّ أحداً غير عارفٍ بمكان الاحتفاظ به، باستثناء شخصٍ ملثّم بوجه اصطناعي أسود وقاتم ومخيف، وبزيّ يُضاهيه سواداً وقتامةً وإخافة، لن تُعرف هويته إلا في الفصول الأخيرة. بداية سرد الأحداث تتمثّل بهذا الشخص وهو يجلس في قبو أمام شاشة تلفزيونية، ويُشاهد المتّهم في اعترافاته.

التحقيق في اختفاء مراهقاتٍ في جوهانسبورغ تقودها المُحقِّقة البيضاء جودي سْنيمان (إيريكا فسُلْس)، التي توحي لقاءات عدّة مع صديقتها نْتومبيزونكي باباي (هْلوبي أمْبويا)، زميلتها في قسم التحقيقات، بوجود علاقة حبّ بينهما، غير واضحة المعالِم كلّياً (يُعرف لاحقاً أنّ اسم نْتومبيزونكي يعني "جميع الفتيات"). تفشل جودي، أكثر من مرّة، في مسار تحقيقاتها، فيُبعدها رئيسها، النقيب جورج مولوليكي (موتْهوسي ماغانو)، عن القضية بحدّة، مكلِّفاً إياها بالتحقيق في جريمة قتل: المقتول مَرميّ في حديقة عامة، ومكتوبٌ على صدره بالسكين حرفان، سيكونان أول حرفين من اسم فتاة مفقودة واسم عائلتها.

سينما ودراما
التحديثات الحية

تتداخل القضيتان إحداهما بالأخرى، وتستعيد جودي زمام الأمور، قبل "شعور" زميلها، الضابط المُحقِّق صامويل أرنْدسي (برندون دانيالز)، أنّ هناك من يسبق التحقيقات بـ"خطوتين"، إذْ تُقتَل شخصيات عدّة بالطريقة نفسها لمقتل الأول، والأحرف المحفورة بالسكين على صدورها عائدةٌ إلى فتيات مفقودات منذ سنين. شيئاً فشيئاً، تُدرك جودي سْنيمان هوية القاتل، فتُرافقه في رحلة الثأر حتى لحظة مقتله، ثم تُكمل لوحدها هذا الدرب: المشهد الأخير يوحي بأنّ هناك احتمالاً كبيراً لإنتاج جزءٍ ثانٍ، رغم أنّ نهاية كهذه، من دون تتمة، مقبولة، بل أفضل من أنْ تكون لها تتمة.

الاشتغال الدرامي، تصويراً (تْريفور كالفرْلي) وتوليفاً (لوسِيَان بارْنار) وموسيقى (براندن يوري) وأداءً، يمتلك مفرداته الفنية والتقنية، التي تصنع عالماً مثقلاً بالعنف والخراب والتوتّر، مع ميلٍ إلى إبراز التمزّق النفسي والروحي لشخصياتٍ تجهد في كشف وقائع، وتفشل في وضع خاتمة شرعية لها. هذا حاصلٌ في فصول متتالية، قبل انكشاف هوية القاتل، إذْ يُصبح السرد بعد الانكشاف عادياً للغاية، والمطاردة البوليسية "هوليوودية" بحتة، بالمعنى التجاري التقليديّ العادي. إيريكا فسُلْس نفسها تنتقل، في تلك الفصول القليلة، من أداء مُقنع في التعبير عن تمزّقات جودي سْنيمان واضطراباتها ورغباتها وتفكيرها واشتغالها في التحقيقات، إلى مجرّد امرأة تُطارد "أحدهم" لقتله، بدلاً من الاحتفاظ بتلك الحيوية التمثيلية.

بعيداً عن "مستوحى من أحداثٍ حقيقية"، يلتزم "أنا جميع الفتيات" مفردات النوع البوليسي التشويقي، الذي تتداخل فيه أعمال العصابات بسلطات سياسية ودينية واجتماعية، وأفعال جُرمية بذاكرة مليئة بالقهر والغضب والعجز والعنف، مع إشاراتٍ عابرة إلى واقع اجتماعي في جنوب أفريقيا. ختام السرد الحكائيّ يقول إنّ الانتقام الأكثر واقعيةً يتمثّل بعمل فرديّ، سيكون أنجع من غيره في تحقيق عدالةٍ، يبدو أنّ القانون عاجزٌ عن تحقيقها.

المساهمون