"كلارا سولا": آلام القاع وأوجاعه المتعددة

"كلارا سولا": آلام القاع وأوجاعه المتعددة

13 يوليو 2022
"كلارا سولا" لناتالي ألفاريز مِسِن: احترام عقل المُشاهد (الملف الصحافي)
+ الخط -

يذهب فيلم "كلارا سولا" (2021)، لناتالي ألفاريز مِسِن (كوستاريكا، مواليد السويد، 15 يناير/ كانون الثاني 1988)، صوب العقل. يُحرّض مُشاهده على الانعتاق من الخرافات والتقاليد البائدة، التي تحجب التفكير، وتمنع طرح أسئلة منطقية، تجلب إجابات واضحة لا تلاعب فيها، وتدعو إلى الاستماع إلى نداءات الجسد، والإنصات إليه بأذن صافية، لتفكيك شيفرات لغته الإيحائية، التي تستجدي من خلالها متطلباتها، بعيداً عن أي توظيف أيديولوجي يُمكن أنْ يُقوّض هذا النداء ويتجاوزه بطريقة يمكنها توليد العنف والكراهية، انطلاقاً من الذات المُقيّدة ضد الآخر، الذي لا يفهمها إطلاقاً، لأنّه ينظر إليها من زاوية ضيقة، ومن مصلحة آنيّة.

هذا حَدث مع كلارا سولا (ويندي تشِنْشيلا آرايا)، ذات الـ40 عاماً، التي تعيش حياة تشبه ما يُطلق عليه مصطلح الدراويش. تقطن في قرية نائية في كوستاريكا، ويعتقد سكّانها أنّها تمتلك صلة خاصة بـ"الربّ"، وأنّها قريبة منه إلى درجة أنّه جعلها وسيطة، فامتلكت قدرات خارقة، تُعالج بها المرضى، وتحقّق بفضلها أمنيات الغير. استغلّت والدتها فريزيا (فلور ماريا فارغاس تشافيز)، هاتين الطاقة الروحية والهالة الدينية، المرسومتين حولها، لصالحها، إذْ بات الأمر ينعكس عليها مادياً.

ذات يوم، يحدث غير المُنتظر: إنجذاب كلارا سولا نحو صديق ابنة أختها المراهقة ماريا (آنا جوليا بوراس إسبينوزا)، فتتحرّك فيها مشاعر التواصل والعلاقات الحميمة، وهذا ترفضه الأم، التي تحاول بطرق عدّة كبح هذه الأحلام والطموحات الطبيعية. لكنّ كلارا الطيّبة لا تستمع إلا إلى نداء قلبها، لتبدأ معركة التحرّر من قيود الأمر الواقع وصُوَر المجتمع، وتقاوم المعتقدات الاجتماعية والدينية المُلزمة بها منذ صغرها. تُصبح سيدة نفسها، وتتصرّف وفقاً لسجيّتها، بفضل القوة الجديدة المُكتشفة فيها، التي لم تعرفها سابقاً، بسبب قيود كثيرة تُكبِّلها، وتجعلها تعتقد أنّها تمتلك قوى خارقة، مستَمدّة من القديسين والأطهار، المتجسدين فيها بصورة ما.

ينطلق "كلارا سولا" (إنتاج مشترك بين كوستاريكا والسويد وبلجيكا وألمانيا)، من فكرة الاستغلال العاطفي المفرط، لإدانة الناس، وإيهامهم بأشياء غير موجودة، نتيجة التمسّك الكبير للريفيّين والبسطاء ومحدودي التعليم والمُشبعين بالتعاليم الدينية بتعاليم دينية مُحرّفة وغير موجودة، لأنّهم يبحثون دائماً عن أشياء غير موجودة ويُصدّقونها، وينسجون حولها أساطير وهالات ومعجزات. هذا حدث لكلارا، التي كانت بالنسبة إليهم المرأة المنشودة، لتكون لسان حال مريم العذراء، بحسب اعتقادهم، والناطقة بلسانها. لذا، كان ضرورياً أنْ تمتلك طاقة وقدرة على ابتكار معجزات، ثم تمكّنوا من تأويل أحداث وظواهر طبيعية بربطها بها. كما أنّ والدتها جعلتها قديسة أمام الجميع، فوجبت المحافظة على هذه الشخصية الدينية التي ابتكرتها.

كلارا تعاني مرضاً خطراً يُهدّد حياتها، يتمثّل بانحناء عمودها الفقري، فنصح الطبيبُ الأمّ بضرورة إجراء عملية جراحية تقضي على المرض، قائلاً لها إنّ التأمين الصحّي سيُغطّي التكاليف. ترفض الأم، وتردّ عليه: "وهبني الله إياها هكذا، وستبقى هكذا"، وإنْ أجرت العملية، ستتلاشى قواها الخارقة في نظر الناس، وبالتالي لن تدرّ المال عليها. فالأم استطاعت إيهام ابنتها بأنّها قديسة، ويجب عليها التصرّف كالقديسين: تزهد، ولا تضع مساحيق التجميل، ولا ترتدي الفساتين مثل أترابها. زرعت فيها هذه الأفكار منذ صغرها. لكنّ كلارا بدأت تكتشف نفسها، وتتحرّر من هذه الأفكار الرجعية، التي حرمتها أنْ تكون امرأة كغيرها، وبدأت تجهد في اللحاق بما فاتها، وهذا ليس سهلاً عليها، لذا يجب خلق صدمة كبيرة ليعي الجميع تحوّلها ويفهمونه، خاصة والدتها.

 

 

في "كلارا سولا" ـ المعروض في "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ انعكست جماليات بصرية، ولّدتها الطبيعة الساحرة التي شهدت أحداثه، من مساحات خضراء، وأشجار كبيرة ومتداخلة، وصفاء الماء المتسرّب من نهرٍ يشقّ الغابة، التي ترعى فيها الأحصنة، وأشكال البيوت القديمة والحميمة، وهذا عنصر نقلته بذكاء المُصوّرة صوفي وينكفيست، التي عرفت كيفية ضبط الزوايا لتوليد ذاك السحر، الذي يغذّي القلب، ويحرّض العقل على المتعة والانسجام مع الأحداث. أما ديكور بيت كلارا، القديم نسبياً، والموحي بمحدودية دخل العائلة، فخَدَم بشكل كبير الـ"ثيمة"، انطلاقاً من الضرورة البشرية، التي تدفع الفرد إلى خلق طرق عيشٍ تسدّ جوعه.

من ناحية الموضوع، الذي يمكن حصره بمفهوم "توظيف الدين لمصالح شخصية"، فمرآة تعكس راهن الإنسان الحديث، في كلّ نقطةٍ في العالم، والمخرجة مِسِن، المشاركة في كتابة السيناريو مع ماريا كاميلا آرياس، أحسنت اختيار موضوع دقيق كهذا، يؤثّر بشكل ما على حاضر الإنسان ومستقبله. القصّة منسجمة مع الخطّ العام، وكلّ حدثٍ مُبرّر درامياً، ويخدم ـ بشكل مباشر أو غاير مباشر ـ القصّة كنظام متكامل، ما يثبت قوّة الحبكة، التي اشتركت فيها أشياء عدّة موظّفة جيّداً، كالشخصيات التي أدّت ما عليها في الأحداث ومسارها السلس، أبرزها شخصية المُراهقة، ابنة أخت كلارا، التي ترى عبرها أنوثتها ومُراهقتها، ومباهج الأنثى. صديقها سانتياغو (دانيال كاستانيدا رينكون)، صوت العقل، حافظ على توازن الأحداث، وكان الشخص القريب من صوت كلارا، ولم يستغلّها كما فعل كثيرون، رغم أنّه كان بوسعه فعل هذا، لكنّه استمع فقط إلى صوت قلبها. بالإضافة إلى عناصر أخرى، شكّل جمعها معاً جماليات متعدّدة.

"كلارا سولا" ـ المُشارك في الدورة الـ5 (14 ـ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ صوتٌ مكتومٌ في وجه ضجيج الأصوات، يعكس مدى حرص ناتالي ألفاريز مِسِن على تقديم عملٍ تحترم فيه عقل المُشاهد، ذاهبة فيه (الفيلم) إلى الهامش، لترى آلاماً وأحداثاً موجعة، وتنقلها إلى عالمٍ لا يعرف شيئاً عن قصص كهذه، تُلفت نظر الناس إلى التوظيف الخاطئ للدين، واستغلال الأفراد لخدمة مآرب شخصية، واللعب على مشاعرهم وعواطفهم.

المساهمون