أمين المسعدي (2/ 3): المُخرج أهمّ شخص في اختيارات التصوير

أمين المسعدي (2/ 3): المُخرج أهمّ شخص في اختيارات التصوير

11 اغسطس 2023
أمين المسعدي: أساسيٌّ أنْ يتفانى المرء في شغله (العربي الجديد)
+ الخط -

 

(*) بعدها، بدأتم الاشتغال على الأعمال الأولى.

نعم. أول مشروع لعلاء الدين سليم فيلم قصير بعنوان "الملعب" (2010)، اقترح عليّ الاشتغال معه عليه. عند عودتي عام 2009، قرّرت أنّ الفيلم الطويل الذي سأشتغل عليه في تونس لن يكون قراراً مُتسرّعاً فقط، لأتجاوز عتبة الاشتغال على فيلم طويل كمدير تصوير، بل سيكون فيلماً أؤمن به كمشروع فني وجمالي. عُرضت عليّ اقتراحات كثيرة، رفضتها. بعد إنجاز "الملعب"، وفيلمين قصيرين آخرين، إنتاج شركته، مع آخرين، ظهر مشروع "آخر واحد فينا" (2016)، أول فيلم تخييلي طويل له، الذي قدّمه لنيل دعم الإنتاج، لكنه لم يحصل عليه. قال علاء إنّ لديه سيناريو، وسأل عن رأينا في فكرة الاشتغال عليه كإنتاج ذاتي. اتفقنا، وكنا 12 شخصاً. اشتغلنا على السيناريو، وخضنا مغامرة تصوير الفيلم بكاميرا "كانون 5D".

كنت مُستعداً للاشتغال مع علاء، لأنّي عملت معه على "الملعب". في التصوير، تقاربنا وقويت الروابط الإنسانية بيننا، خصوصاً بعد ما عشناه معاً في مكتبه ليلة هروب بن علي عام 2011. وجدنا أنفسنا مع زوجتينا في المكتب، برفقة 40 شخصاً آخر قرّروا الاختباء هناك. أمضينا الليلة حتى الثالثة صباحاً، حين جاءت الشرطة لإخراجنا، وخرّبوا المكتب، وأتلفوا أقراص الذاكرة، وسرقوا مقاطع من أفلامه. كلّ هذا الذي عشناه معاً قَرّب بيننا، إضافة إلى تحدّي الثورة نفسه، الذي فرض علينا تبيان قدرتنا على فعل أشياء مختلفة، وجعل المخرجين السابقين يتقبّلون أنّ مكانتهم مضمونة. لكنْ، في الوقت نفسه، هناك جيل جديد ومختلف. كانت الظروف مواتية لكلّ ذلك.

صوّرنا "آخر واحد فينا" بصيغة إنتاج مشترك. ساهمت براتبي كمدير تصوير، كما فعل مهندس الصوت والمتدخّلون، لكي ننجز المشروع.

 

(*) لم تكونوا تتوافرون على مصدر آخر للتمويل؟

لا، لم تكن هناك وسيلة تمويل أخرى عند التصوير، ولم ننل دعماً إلا في مرحلة ما بعد الإنتاج. بما أنّ علاء أنجز "بابل" (وثائقي بإخراج مشترك مع يوسف الشابي وإسماعيل الشابي، 2012 ـ المحرّر) بعد الثورة، ونال بفضله جوائز، بعض صناديق الدعم اهتمّت بتمويل فيلمه المقبل، لكن في مرحلة ما بعد الإنتاج. بعدها، شارك الفيلم في "أسبوع النقاد" في "مهرجان فينيسيا" وفزنا بـ"الأسد الذهبي للمستقبل" (جائزة لويجي دي لورينتيس ـ المحرّر) كأفضل عمل أول.

 

(*) جانب الفيلم الذي يتمحور حول سعي الشخصية الرئيسية، وسط طبيعة غير مواتية، يعكس، نوعاً ما، ما كنتم تعيشونه. أتذكّر أنّ نهايته من أفضل ما شاهدت، لأنها تحيل بغرائبيتها وفكرة التلاشي على الحقيقة الصوفية، التي تقول إنّ السعي في الطريق أهم من الوصول إلى الهدف.

نعم، هذا صحيح. الفيلم يحمل تراكماً لكلّ ما عشناه في الأعوام الـ4، بين 2009 و2012. هواجس وأحاسيس وتجارب جعلتنا نضحّي بكلّ شيء، من دون أنْ يكون لدينا ما نخسره، لأنّنا منخرطون في منطق ثورة وتغيير سياسي وثقافي، كنا مقتنعين معهما بضرورة المساهمة في تطوير الأشياء بدورنا، وأنْ لا فائدة من اجترار ما كان يُنجز من قبل.

هذا فيلمي الأول. بعده، بدأت أنفتح أكثر على تجارب أخرى. تلقيت اتصالاً من نبيل عيوش للاشتغال على "الزّين لي فيك". كنت أعرف المُكلَّفة بالـ"سكريبت"، لاشتغالي معها سابقاً في تونس، وهي نصحته بالاشتغال معي. هكذا بدأت علاقتي به. في البداية، كان الاتصال بي لأكون مدير تصويره. لكنْ، بحكم أنّي كنتُ لا أزال في تجاربي الأولى، اقترح عليّ الانضمام إلى المشروع كمصوّر ثاني، فقبلت، لأنّه يظلّ نبيل عيوش، والتجربة معه ستكون حتماً مفيدة. هكذا بدأت مساري معه. هو عرّفني إلى حكيم بلعباس، الذي اشتغلت معه على "عرق الشتا".

 

(*) هناك نقاط التقاء مشتركة كثيرة بين تونس والمغرب، طبعاً مقارنة بإيطاليا. لكنْ، ربما هناك نقاط اختلاف أيضاً. ما المُختلف بين تجاربك في تونس التي خضتها في المغرب؟

لا، ليس هناك اختلاف. علاقتي بالمغرب خاصة. قلت إنّ الصدفة تلعب دوراً مهماً، لأني جئت إلى هنا لأول مرة عام 1998، وسكنت في بيت فريدة بليزيد في القصبة بطنجة. صديقتي حينها كانت صديقة لأمّها، ففتحت لي بيتها لأسبوع. بعدها، عام 2000، مشيتُ مع صديقِ لي في سفرٍ من تونس إلى الجزائر، ثم إلى تمنراست وتمبوكتو، مروراً بنواكشوط، وصولاً إلى طنجة. عندما وصلنا إلى طنجة، ولأننا نعرف محمد شكري بفضل روايته "الخبز الحافي"، قرّرنا البحث عنه، فدلّونا على حانة "الخبز الحافي". هناك، قيل لنا إنه في تطوان، فسرنا وراءه. فكان أول لقاء لنا معه، وشربنا النبيذ. لم آتِ إلى المغرب كمهني يشتغل على الأفلام، بل بحكم علاقة أخرى إنسانية انبنت في أعوام. أعرف الثقافة المغربية، وسينمائياً، كما تعرف، اعتدنا مشاهدة الأفلام المغربية في "مهرجان قرطاج". هكذا نشأ استعداد مسبق لإعجابي بالمغرب كبلد، دخلته من الجنوب ومن الشمال، فصرت أعرفه جيداً.

هناك شيء أؤمن به، قد يصعب شرحه لمدير تصوير شاب اليوم: أقول دائماً إنّي كمدير تصوير لا أشتغل أبداً مع منتج. هذه قناعة لديّ، أنْ أشتغل بناءً على مشروع المخرج أولاً، وألّا يكون المنتج أول من يُخاطبني. المخرج لي أهمّ شخص بالنسبة إلى اختيارات التصوير. إذا قررت الاشتغال مع علاء وحكيم ونبيل، فلأنّي مؤمن بالمشروع الذي يشتغلون عليه، لا لأربح نقوداً أو شهرة.

تبعاً لفكرة الصدف والتراكمات، اتصل بي لوكا غوادانيينو ذات يوم، مُقدّماً نفسه. قال إنّه شاهد "طلامس" وأعجب به، وإنّه تحدّث مع علاء، وهنّأه. قال لي إنّه أعجب بعملي، ويودّ فرصةً لنشتغل معاً. لم أصدّق أذنيّ (ضحك). لكنْ، تفشّت كورونا، وأُلغي السفر، ولم يتحقّق المشروع للأسف. قبل وقت، كنت في إيطاليا لتصوير أول فيلم لي مع مخرج إيطالي ("عطلة" لإدواردو غابرييلّيني ـ المحرّر). تجربة مهمة، لأنّي لأول مرة أشتغل مدير تصوير في أوروبا، مع فريق يتكوّن كلّه من إيطاليين. بعد 20 عاماً على رجوعي إلى تونس، أجد نفسي مجدّداً في إيطاليا، وأحسّ كأنّ كلّ شيءٍ كان مُقدّراً. أي إنّهم ينادونني للاشتغال في إيطاليا، لأنّهم رأوا نتيجة اشتغالي في تونس وأحبّوها، وليس لأنّي قررتُ البقاء هناك. هذا يمنحك قيمة أكبر، ويطمئنك على اختياراتك.

أعتقد أنّه أساسيّ ألّا يتسرّع المرء في اتّخاذ قرارات، وأنْ يؤمن بالمرحلية، ويأخذ وقته، ويتفانى في شغله. بعدها قد تأتي كلّ الأشياء الأخرى، كالمال والشهرة، كنتيجة طبيعية، لأنّك لم تكن تبحث عنها.

 

 

(*) مركز مدير التصوير مجحف بحقّه شيئاً ما. أولاً، لأنّه الأهمّ في معادلة إنجاز الفيلم بعد المخرج. لكننا لا نهتمّ به غالباً. حتّى عندما نثني عليه، نحسّ أنّنا بذلك نُنقص من أهمية الإخراج، أو نظلمه. يعني دائماً تكون علاقتنا النقدية بمدير التصوير غير سوية نوعاً ما. لكنْ، ربما أنت استطعت تجاوز هذا الجانب بطابع شخصيتك المتواضع والمتواري إلى الخلف. كيف تعاملت مع هذا المعطى؟

ما أشرت إليه صحيح. كما تعرف، الصورة تحكي عن الشخص. لست من مديري التصوير الذين يؤمنون بثقل التكنولوجيا. صوّرت أول فيلم طويل بكاميرا "كانون 5D". رغم ذلك، فاز بجائزة مهمة في "فينيسيا". عندما أُسأل: "بماذا صوّرت"، أخجل من مواجهة الحقيقة. التقنية ليست مهمة إذا لم تقدّم أيّ إضافة لرؤية الفيلم وحكيه. لا أؤمن بمعدات الإضاءة الثقيلة والتجهيزات المعقّدة، لأنّ سينمانا لا تتحمّل كلّ ذلك، إنتاجياً وفنّياً وإبداعاً أولاً، ولأنّ التحكّم فيها صعبٌ للغاية. في شغلي، أعتمد مدرسة الطّرح (La soustraction)، أي أنْقِصُ الأشياء الموجودة في الواقع، أكثر مما أضيف إليها. أحاول التعبير بأبسط الأشياء وأسهلها، لأجعل المخرج يشتغل براحته، والممثلين كذلك.

مهم ألّا يحسّ الفريق أنّه مندرج في مقاربة تقنية، تصبح معها الأداة محطّ انبهارٍ وهدفاً بحدّ ذاته. ينبغي العثور على الإحساس الصحيح انطلاقاً من أبسط الأشياء. هذه فلسفتي في رؤية الأشياء. إنّها، ربما، تلك التي نَعَتَّها بتواضع الشخصية، التي تنعكس على طريقة اشتغالي. أحترم وظيفة الإخراج، وأعتقد أنّه ما إن نبدأ في الحديث عن "صورة جميلة"، فهذا يعني عدم نجاح المخرج، وإخفاق مدير التصوير كذلك. أحبّذ أنْ يُقال: "هذا فيلمٌ جميل".

 

(*) هذا يشبه ما يحصل مع حكّام مباريات كرة القدم. فالحكم الناجح لا يتحدّث عنه أحدٌ بعد انتهاء المباراة.

نعم. هناك توازن ينبغي إيجاده في هذا الشأن. في النهاية، وحدها التجربة على المدى الطويل تحكم عليك. نجاح فيلم واحد أو فشله ليس مهمّاً. أعرف أنّه يمكنني أنْ أخطئ التقدير. لكن ثقتي المتبادلة مع المخرج تساعد على البناء على الخطأ، لصنع شيءٍ أحسن. هذه فلسفتي في العمل.

 

(*) الإضاءة مهمة جداً في عمل مدير التصوير، إلى حدّ أنّ هناك من يسمّي مهمّته "إضاءة الأفلام". لكنّي لاحظت أنّ هناك سهولة سائدة، تعتبر أنّ الإضاءة الطبيعية مفضّلة بشكل مبدئي على الإضاءة الاصطناعية. أهناك نوع إضاءة مفضّل على نوع آخر؟

لا. بالطبع، لكلّ فيلم إضاءته. برغمان كان يعتمد في أفلامه مع "نيكفيست" على إضاءة طبيعية، بأبسط الأشياء. لكنْ، هناك مدرسة "ستورارو" مع كوبولا، التي تتبنّى فلسفة مغايرة. كلّ طريقة تصلح لسياق وحالة معيّنين. من الأشياء الأساسية لي اليوم، التي ينبغي التفكير فيها مليّاً، أننا ننتمي إلى سينما فقيرة، ويلزم إيجاد طريقة لبعث الأحاسيس، انطلاقاً ممّا نتوافر عليه. لأننا إذا ظللنا نبحث عن نقود أكثر، ومعدّات أضخم، وتكنولوجيا أحدث، لن ننجز شيئاً. التكنولوجيا لا تتوقّف عن التطوّر. هناك دائماً معدّات أضخم من التي نتوافر عليها. الأنسب أنْ نشتغل على الأشياء المتوافرة لدينا، رغم بساطتها.

لهذا، أعتبر أنّ تجربتي مع حكيم بلعباس مهمّة، لأنّك حين ترى "لو كان يطيحو لحيوط" أو "عرق الشتا" يسترعي انتباهك انتفاء الحدود بين التخييلي والوثائقي، حتى في طريقة الإضاءة نفسها. رؤية بلعباس وفلسفته في الإخراج تعتمدان على شخصيات من الحياة الواقعية، ومزجها بممثلين محترفين. لكنْ، حتى في اختيار الإضاءة، يحاول المزج بين هذين البعدين: الطبيعي والاصطناعي. أي إنّنا إزاء كاميرا وثائقية تنحو إلى التخييل. المهم ألّا نفكّر مثل هوليوود، ونبحث عن توازننا الخاص والصورة الوفية لحقيقتنا. اليوم، مع ما أسمعه من ارتفاع موازنات أفلام، أجد أن لدى المنتجين حقّاً في القول إنّ الأفلام أصبحت أغلى ممّا يلزم. ينبغي أنْ يجد مدير التصوير والتقنيون حلولاً أخرى، بالتعاون مع المخرج، انطلاقاً من المتوافر. يمكن أنْ يتأتّى هذا من الوثائقي، لأنّه مدرسة تعلّم كيف تبلغ فكرة أو إحساساً انطلاقاً من أبسط الأشياء.

 

(*) في الفيلم الوثائقي، المقاربة الإبداعية تسبق، نوعاً ما، الإنتاجية، عكس ما يقع في التخييلي، حيث تتحكم المقاربة الإنتاجية في الاختيارات الإبداعية غالباً.

أكيد. ليست هناك مقاربة صحيحة في إدارة التصوير. لكنْ، ينبغي أن نُوَعّي الشباب. هذا أركّز عليه حين أدرِّس: جمال الصورة ليس ما يصنع إدارة تصوير جيّدة. لأنّ بوسع أيّ شخص، اليوم، بعد تعلّمه أشياء بسيطة، أنْ يحمل كاميرا "أليكسا"، ويلتقط بها صوراً جميلة. لكنْ، ماذا يوجد في عمق الصُّور التي صنعها؟ ماذا عن ثقافته في التشكيل والمسرح والأدب والشعر؟ هل في صوره شيءٌ مما تعلّمه من سفره وتجاربه وعلاقاته مع الناس؟ هذا يجعل للصُّور عمقاً. إنْ لم يكن هناك بحثٌ يحيل على كلّ هذه الأشياء، فإنّك بصدد صنع صُور للاستهلاك التلفزيوني. قد تكون جميلة، وإضاءتها حلوة. لكنْ، ماذا بعد؟

 

(*) حتى المجازفة مهمّة في هذا الصدد. لأنّ هناك من لا يجازف بأي شيء في الصُّور التي يصنعها، فتخرج جامدة ومسطّحة.

ومتشابهة. اليوم، مشكلتي مع التلفزيون وما يجعلني ألا أشتغل فيه إلا نادراً، إحساسي أنّ الصُّور تتشابه، ولا فرق بين المسلسلات. شاهد مسلسلاً تونسياً وآخر مغربياً اليوم: لا تُفرّق بينهما على مستوى الصورة. ليس هناك بحث جمالي واشتغال على البعد الفلسفي للصورة. أشياء كهذه تصنع تطوّر المجتمعات فكرياً وفنياً، كما حدث في أوروبا.

المساهمون