القدس المحتلة... ابتهالات تلك الأصوات القديمة

01 يناير 2024
إطلالة على القدس من جبل الزيتون (Getty)
+ الخط -

احتشد الآلاف في ساحة المسجد الحسيني في القاهرة قبيل أذان الفجر. جاؤوا من كل مكان، وليس لهم غرض إلا الاستماع لابتهالات منشدهم الأثير الشيخ نصر الدين طوبار، الذي خصصت الإذاعة له فجر يوم الجمعة من كل أسبوع، ليستمع إليه المصريون على الهواء مباشرة، بعد أن انتظروا في شغف بجوار أجهزة الراديو. كان التدفق الجماهيري الأسبوعي على المسجد الحسيني كبيراً، إلى درجة أن الشرطة كانت تزيد من أفراد الخدمات الأمنية في المنطقة. لكن هذا الفجر استثنائي، ليس فقط لأنه في منتصف شهر رمضان، ولكن لأن القوات المصرية نجحت منذ أيام في عبور قناة السويس، وحققت تقدماً كبيراً في الهجوم الذي شنّته ظهر السادس من أكتوبر/ تشرين الأول (1973)، ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في سيناء. أرسل طوبار صوته الضارع: "إليك دعاؤنا.. يا ربنا.. فاجعله مقبولاً... وفيك رجاؤنا... يا ربنا... ما زال مأمولاً. لأجل المسجد الأقصى، لأجل القبلة الأولى، وأنت الحق فانصرنا على أعدائنا يا رب". انسالت دموع المستمعين، وتعالت صيحات التكبير والاستحسان من جنبات المسجد. لم يكن في هذا الابتهال أي قدر من التفنن النغمي. فقط كان صيحة تضرّع، أخذت بألباب الجماهير.

مدينة القدس في الابتهالات

يحتفي فن الإنشاد الديني المصري بفلسطين بحفاوة بالغة، وتحظى مدينة القدس والمسجد الأقصى باهتمام لافت في ابتهالات الشيوخ الكبار، بعد أن تضافرت الأسباب الدينية مع الأسباب السياسية لتكسب هذا الاهتمام بعده المنطقي والفني. فلسطين هي الأرض المباركة، والمسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى النبي محمد. لكن مع حلول نكبة 1948، ثم هزيمة يونيو 1967، أمسى البعد السياسي حاضراً، وصار لزاماً على فن الإنشاد أن يواكب محنة الشعب الفلسطيني، ونضاله ومعه الشعوب العربية من أجل تحرير الأرض واستعادة الحقوق. وكما يترنم المنشد بذكر القدس أو المسجد الأقصى بمناسبة الإسراء والمعراج، صار يترنم بها في ذكرى الانتصارات والهزائم، وعند اشتعال المواجهات بين الشعب الفلسطيني وبين الاحتلال الإسرائيلي.
في تسجيلات الشيخ طه الفشني، يتذكر هواة الإنشاد أداء الشيخ قصيدة "ميلاد طه"، لا سيما البيت الذي يقول: "وإلى رحاب القدس سرت مكرماً.. وعرجت يصحبك دليل الهادي". يمثّل هذا التسجيل نموذجاً للترنم باسم القدس، باعتبارها أرض الإسراء، أي لاعتبارات دينية صرفة، بعيداً عن مأساة الاحتلال. ومن هذا النمط كذلك تسجيل شهير للشيخ كامل يوسف البهتيمي، ينشد فيه الأبيات الشهيرة من بردة البوصيري: "سريت من حرم ليلاً إلى حرم.. كما سرى البدر في داج من الظلم". وكذلك ابتهال جماهيري للشيخ محمد الطوخي، يصف رحلة الإسراء والمعراج قائلاً: "والمسجد الأقصى ينادي ربه.. والأنبياء تجمعوا بهداه".

الشيخ سيد النقشبندي

ربما كان الشيخ سيد النقشبندي أكثر المنشدين عناية بقضية فلسطين، فقد ترك عدداً من التسجيلات المهمة، التي تذكر بمأساة الشعب الفلسطيني، وضياع مدينة القدس، والتخاذل والتواطؤ الدولي تجاه الاحتلال. يتغنى النقشبندي: "فلسطين نادت وهي تبكي.. ودمعها وإن حجبته الكبرياء يسيلُ.. وفي روحها للحزن نارٌ ولوعة.. وللصبر فيها ضجةٌ وعويلُ.. إلهي فانصرها على كل ظالم.. فأنت بنصر الأولياء كفيلُ.. إلهي وليرجع إلى الأرض أهلُها.. ففيهم حنينٌ للرجوع طويلُ". وله أيضاً من محفل جماهيري في ليلة الإسراء: "يا واصف الأقصى أتيت بوصفه.. وكأنك الرسام والبناء".
وبالمصاحبة الموسيقية، ومع الكورال، أنشد النقشبندي من كلمات عبد الفتاح مصطفى، وألحان بليغ حمدي، قصيدة "أي سلوى وعزاء"، وفيها يقول: "سبحان من أسرى.. بعبده ليلاً.. للمسجد الأقصى.. نال العلا نيلا". وله أيضاً ضمن مجموعة أناشيده المعروفة باسم "سبحانك ربي" من كلمات عبد السلام أمين وألحان حلمي أمين: "للقدس منازل تبجيلك.. مسرى مبعوثك ورسولك.. ومقام نجيك وخليلك.. ندعوك بقدرة تنزيلك.. لتطهرها ممن خانك... فبحق البيت وما حوله.. ونبي أصدقنا قوله.. لا ترفع للغاصب دولة.. وانصرنا في أقرب جولة".
لكن أكبر جولات النقشبندي في نصرة فلسطين، تمثلت في تسجيل لمحفله الضخم بالمسجد الأموي في مدينة حلب عام 1958. بدأ الشيخ وصلته بقصيدة الشاعر الشيخ شمس الدين الأزهري: "أمن غرامك للبطحاء والحرم.. بت الليالي لم تهجع ولم تنم". حلق النقشبندي بصوته في الجوابات العالية، بما لا يقدر عليه أحد، مقدماً باقة من الجمل القوية المطربة لأكثر من نصف ساعة، كانت كأنها تهيئة لما ادخره من إنشاد يخص به القضية الفلسطينية. أنشد الرجل والجمهور في غاية الإنصات: "قم يا فتى العُرب.. حيِّ فتية الحرم.. حيِّ فلسطين مهد الوحي في القدم.. وانقش على صفحات الخلد قصتها.. وأنها لم تهن يوماً لملتهم.. وانشر على مسمع التاريخ مهزلة.. قامت بها عصبة في هيئة الأمم". وهنا ينفجر الجمهور المنصت بصيحات الانفعال.

لكن الشيخ يواصل: "جاء القرار وشرع الغاب مصدره. فيه تجلى خداع الخصم والحكم. الحق أبلج لا يخفى على أحد، لكنهم عن نداء الحق في صمم. لا يرهبنك يا ابن العُرب جمعهم، فالحق مهما أعدوا غير منهزم. لا يُستطال علينا إننا عَرب. الفرد منا بأرض الذل لم يقم. رام اليهود بأرض القدس مملكة، خاب اليهود وخابت هيئة الأمم". اهتزت جنبات المسجد مع انفعال الجماهير، التي رأت في كلمات الوصلة النقشبندية ملخصاً حقيقياً واضحاً لمأساة فلسطين وشعبها.

القضية والمكان

ارتبط قراء مصر ومنشدوها بفلسطين قضية ومكاناً، تردد كثير منهم على المدن الفلسطينية قبيل النكبة، واستمعت الجماهير العربية إلى الشيوخ أبو العينين شعيشع، وكامل يوسف البهتيمي، وأمين حسنين، عبر إذاعات القدس والشرق الأدنى. وبعد النكبة، توقفت زياراتهم لمدن فلسطين التاريخية، لكنهم لم ينقطعوا عن المدن التي بقيت تحت الإدارة العربية، وأحيا الشيوخ مصطفى إسماعيل ومحمد صديق المنشاوي وعبد الباسط عبد الصمد ليالي قرآنية في ساحة المسجد الأقصى.
وبعد هزيمة يونيو/ حزيران 1967، انقطعت تلك الزيارات، وافتقد المستمعون صوت المذيع في راديو عمان، وهو يقول: "المصلون هنا في ساحة المسجد الأقصى المبارك، أخذوا أماكنهم، للاستماع إلى المقرئ العربي الكبير الشيخ مصطفى إسماعيل". وظل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد حتى رحيله يقول إن أكبر أمنياته أن يقرأ مرة أخرى في الأقصى. لم تعد التلاوة في فلسطين، لكن فلسطين صارت هي المتلوة، وأصبحت هي الأنشودة والابتهال.
 

المساهمون