باسم يوسف يُقدّم درساً ساخراً للصحافة المونولوغية

باسم يوسف يُقدّم درساً ساخراً للصحافة المونولوغية

20 أكتوبر 2023
واجه مقدم البرامج المصري أسئلة ضيفه بالسخرية (تارا زيمبا/ Getty)
+ الخط -

هذه عيّنة لامعة لحضور فلسطين في حرب الإعلام الدولي.

استضاف بيرس مورغان الإعلامي المصري باسم يوسف. بدايةً، افترض مورغان أنّ المصري سيدافع، بداهةً، عن الفلسطينيين. هذا انتماؤه. أعَدّ مورغان ردوداً، بناءً على ذلك. لكنّ يوسف فاجأه، بتقمّصه ساخراً دورَ شخصٍ صَوّت لنتنياهو، فانهارت استراتيجية الصحافي. تقمّص يوسف صوت جو بايدن بن شابيرو، الذي طالب بقتل الفلسطينيين. بعد ذلك، أضاف يوسف تفصيلاً: "المشكلة أنّ الفلسطينيين لا يموتون. حاولتُ قتل زوجتي الفلسطينية، وفشلت. إنّها تستخدم أولادها دروعاً بشرية".

يتحدّث باسم يوسف عن زوجته، ويُفكّر بيرس مورغان بإسرائيل. هذا درسٌ في كشف الدجل والزيف الإعلاميَّين بالسخرية المتولّدة من الأساليب الفلسفية والأدبية في الحوار.

ماذا فعل يوسف بالصحافي، بطل العالم في لغة الخشب (بروباغاندا)؟

بدايةً، بَيّن له يوسف أنّ هناك فرقاً بين من يثرثر في استديو مُكيّف، ومن يتحدّث من غرفة، أو تحت القصف. حَلّ هذا العذاب أنْ يوافق يوسف على كلام الصحافي المونولوغي، فتنتهي المقابلة، ويذهب يوسف ليستريح. خاف الصحافي من وقف المقابلة، المبثوثة مباشرة، وتابع التعبير عن بديهياته، ومُطالبة يوسف بالموافقة عليها.

هذه حلقة بُثّت مباشرة. لو سُجِّلت وخضعت للمونتاج، لوُلِدت ميتة. لا تملك القنوات التلفزيونية شجاعة بَثّ حوارات مباشرة.

فعلاً، وافق يوسف: "يحقّ لإسرائيل الدفاع عن نفسها". أضاف: "بإبادة فلسطينيي غزّة". يتزعزع الصحافي، لأنّ يوسف مرّر له كلمة جديدة، ممنوع استخدامها في الشرق الأوسط. هذا أسلوب جديد لإدارة الحرب الإعلامية، في مواجهة أسلوب استجواب صحافي مستهلك. ما سمات أسلوب الاستجواب المستهلك؟ عادةً، يُمرّر الصحافي مُقدّمة طويلة، فيها بديهياته: معلومات ناقصة أو مُحوّرة ومؤدلجة. "حماس" تقع في المريخ، لا في فلسطين. يقدّم الصحافي ملاحظة عن ضمان سلامة مواطني إسرائيل، ويطلب من الضيف موافقته عليها. يتحدث الصحافي أكثر من الضيف. يطرح أسئلة طويلة. في كلّ مرة يقاطع الضيف لتصحيح السؤال. يزيد ملاحظة لم تكن واردة في السؤال. يصحّح الصحافي سؤاله. لم يُحرّره مُسبقاً. كان ذاك سؤالاً مُرتجلاً. لم يسبق لسقراط ـ في جداله مع السفسطائيين ـ أنْ طرح سؤالاً فيه أكثر من أربع كلمات. من أين استخرج صحافيو القرن الـ21 أسئلةً من عشرين كلمة، منها سبع أدوات نفي، وصفر أداة استفهام؟

يتحدّث الصحافي كأنّ المُشاهدين لا يعرفون الموضوع. تناسى الصحافي ما جرى في الحلقة السابقة، عن ضرورة قتل الفلسطينيين، مع ضيف إسرائيلي اسمه بن شابيرو. تناسى مورغان مُعجم الضيف السابق. هذه حيلة قديمة.

يتجنّب الصحافي طرح سؤال دقيق من أربع كلمات، تاركاً للضيف دقيقة كاملة ليُجيب. حينها، يُعبّر الضيف عن وجهة نظر متماسكة، تنسف فرضيات الصحافي المونولوغي. هدف هذا الأسلوب المستهلك: منع الضيف من أنْ يكون نجم الحلقة. يحتكر المُعدّ النجومية لنفسه، فيبهُت.

ماذا يقع للصحافي، الذي اعتاد أسلوب تقديم برنامج مونولوغ، يُسمّيه حوارياً؟ ينكشف. سيتجنّب مستقبلاً استضافة أي شخصٍ أمهر منه في الحوار. اختبار سقراط، "تكلّم حتى أراك"، ليس سهلاً. غالباً ما يكون مُميتاً.

نصيحة مجانية:

المرجوّ من الصحافي، الذي يستخدم هذا الأسلوب، أنْ يضع "كرونو" أمامه، كي يحسب زمن كلامه ويتذكّره ليكون وقت الأسئلة ربع وقت البرنامج، على الأكثر. على أنْ يتحدّث الضيف ثلاثة أرباع الحلقة. يُمكن للصحافي ألاّ يقلق. ففي أربع حلقات من برنامجه، سيتحدّث أكثر من ضيوفه مجتمعين. من دون هذا، ما الذي يحصل للصحافي الذي يريد سماع صوته فقط، حين يقع بين يديّ مُعلّق ساخر؟ يصير مسخرة. يعبّر الصحافي عن مشاعره: من المحزن قتل الفلسطينيين. يؤكّد له يوسف ذلك، وهو يلعب على الباروديا: "فعلاً. من المحزن قتل الفلسطينيين. لكنْ لكنْ لكنْ، ذلك ضروري". يقول مورغان فكرة، فيوافق يوسف عليها، ويضيف استدراكاً لنسفها. ثمن دفاع إسرائيل عن نفسها مخيّمات جديدة للفلسطينيين.

ماذا سيقول الصحافي الصهيوني، بعد أنْ رأى شعاراته مسروقة ومُحرّفة بغرض تفنيدها بسخرية؟ ليس بإمكان أيّ مثقف أنْ يسخر. يؤكّد مورغان أنّ "حماس" تستخدم السكّان دروعاً بشرية. يوافق يوسف: "صحيح، فـ"حماس" تُرغم الفلسطينيين على البقاء في منازلهم، لتقصفهم إسرائيل". يفترض الصحافي أنّ الأمر البديهي هو التالي: يجب أنْ يهرب الفلسطينيون الحقيقيون من بيوتهم، ليسكن فيها المستوطنون.

تسلّل يوسف إلى داخل السردية الغربية لينسفها من الداخل. بحسب مورغان، إنّ موضوع الحلقة "الوضع في إسرائيل" بسبب "حماس". الواقع أنّ الحرب تجري في غزّة. يقول يوسف إنّ إسرائيل تقتل الفلسطينيين في الضفة الغربية، وليس فيها "حماس". يُفاجأ الصحافي، الذي يسأل كأنّ العالم بدأ اليوم. يلعب على الغامض والمتشابه، وعلى فرضيات ملتبسة وواهية. مثلاً: من حَقّ إسرائيل الدفاع عن نفسها. يتجاهل الصحافي أنّ هذا من حقّ الآخرين أيضاً. لم يظهر قانون حمورابي عن المساواة هذا الصباح. راكمت البشرية معارف وقواعد قانونية راسخة، ومَقالب جُرّبت. كيف نشرح هذا بأعلى مستوى نشري وفلسفي؟

يقول كارل فون كلاوزفيتز: "يا لبؤس النظرية التي تتعارض مع المنطق". ("عن الحرب"، ص 25). الحوار السقراطي أعْقَد من فنّ الحرب. هذا تعبير مُعقّد، لنُعبّر عنه في حكاية: ذات مرة، سُئل جحا: "إذا شَبّ حريقٌ في البحر، واجتاحت النيران البحر كلّه، ماذا أنت فاعل؟". ردّ جحا: "سأتناول كمية كبيرة من السمك المشوي". يريد جحا الاستفادة من كلّ مصيبة. سمكة جحا أهمّ من البحر وكلّ البشرية.

مقابلة باسم يوسف مع بيرس مورغان مثلٌ حَيّ عن دور الخطاب الاحترافي السياسي الأدبي في صراعات السياسة الدولية. ستكون مُفيدةً لمُحلّلي الخطاب في معاهد الصحافة دراسة هذه الحلقة.

المساهمون