حرب الإبادة على غزة: عيون تُحدّق في عالم صامت

29 يناير 2024
توثّق الصور تهجير الشعب الفلسطيني وقتله (داود أبو الكاس / الأناضول)
+ الخط -

كان المصوّر الصحافي خليل رصّاص (1926 - 1974) شاباً في أوائل العشرينات من عمره، حين رافق القائد عبد القادر الحسيني وقواته في معاركهم ضد الاحتلال الصهيوني في جبال القدس. جنباً إلى جنب مع المقاتلين، أشهر كاميرته كسلاح لتوثيق نشاط المقاومة الفلسطينية، ومحاولات التصدي التي قامت بها في معارك القدس، فسلاحه هذا له الشأن في إنتاج وثيقة تحكي الكثير عن تاريخ النكبة.

فيما بعد، أصبح رصّاص أحد آباء التصوير الصحافي الفلسطيني، لا سيما أن أحد أبرز شخصيات صوره، هو عبد القادر الحسيني؛ القائد الذي استشهد برصاص الاحتلال بعد أيام من النكبة. أدركت عصابات الهاغاناه أن هذه الصور ستصبح في أرشيف التاريخ الفلسطيني، فهاجمت استوديو رصّاص، واستولت على ألبوماته، لتغدو حبيسة أدراج السلطات الصهيونية، وكأنها بهذا الأمر تعتقل تاريخاً مصوّراً هو الأقدر على إدانة الاحتلال.
الأمر لم يتوقف على الصور التي سلبت من استوديو "فوتو رصّاص" الذي أسسه والد خليل في منطقة مأمن الله (ماميلا) في باب الجليل بالقدس، بل يتعدى ذلك ليصل إلى أسر ما لا حصر له من الأرشيف المصور والأبحاث الفلسطينية التي تُمثّل دليلاً على كذب رواية الاحتلال الإسرائيلي، إذ أراد هذا الأخير شرعنة وجوده عبر قمع سردية، واختلاق أخرى.

من النكبة إلى حرب الإبادة

في الحديث عن جرائم إسرائيل بعد النكبة وصولاً إلى حرب الإبادة الحالية، يبدو التطرق إلى موضوع سرقة الأرشيف البصري ضرباً من الترف، لكن الأمر لم ينتهِ عند النكبة، وهذا ما يشير بوضوح إلى منهجيته؛ فغداة اجتياح بيروت في عام 1982، دمّر جنود الاحتلال المخيمات الفلسطينية، وقتلوا من فيها في مجازر وحشية لم يستطع الاحتلال محوها من سجلات إجرامه.
عدا عن الجرائم المعلنة، كان لدى إسرائيل هدف مدرج في أجندتها، فما أن دخل جنود الاحتلال إلى بيروت، حتى توجهوا إلى مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية، وأسروا أرشيفها المصور والأبحاث التي أجرتها المنظمة، ونقلوا كثيراً من شرائط الأفلام السينمائية والمواد الخام المصورة إلى مقراتهم وقبروها في أرشيف جهاز الأمن الإسرائيلي، هو أسر بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فالمنظمة استرجعت الأرشيف بعد عام من نهبه في إطار صفقة تبادل أسرى وبوساطة فرنسية، لكن الاحتلال نسخ مواد الأرشيف من دون الحصول على إذن من أصحابه.
تشكيل السردية الإسرائيلية هو أمر لطالما شغل الاحتلال منذ أن ثبت وجوده العسكري على أرض فلسطين وهو ما يُعاد خلال حرب الإبادة المتواصلة. أدركت سلطات الاحتلال أن ديمومة الصور ستهدد وجودها، فتعاملت معها كما تتعامل مع جميع العناصر التي تشير إلى الهوية الفلسطينية، بل كما تعاملت مع الفلسطينيين أنفسهم، فأخفت وأعدمت ما وقع منها في قبضة الجنود. هذه السياسة التي تصب بشكل مباشر في طمس الذاكرة الجمعية الفلسطينية، ما هي إلا خطوة على طريق التطهير العرقي.
ما كان من المتاح لباحث غير إسرائيلي أن يفتح قضية الوثائق الفلسطينية، وذلك لكون الوثائق قابعة تحت القبضة الأمنية للاحتلال، ثم جاءت الباحثة والمخرجة الإسرائيلية في التاريخ البصري، رونا سيلع، في فيلمها الصادر عام 2017 "نهب وإخفاء" الذي "يكشف لأول مرة عن المواد في سياقها الفلسطيني الأصلي، ويقتفى آثار الشخصيات المركزية التي يرتبط عملها بالأرشيفات"، على حد وصف سيلع.

على شاطئ في مخيم رفح (فرانس برس)
على شاطئ في رفح (فرانس برس)

تؤكد سيلع أنه لطالما كان الأرشيف الاستعماري محط دراسات كبيرة، ولا سيما في محاولات استشفاف تاريخ آخر، أو أرشيف تخفيه بين طياتها، هو أرشيف الشعب المستعمَر، فكل صورة للمستعمِر يحضر فيها شبح المستعمَر، إلا أن الأرشيف الصهيوني بقي تحت قبضة السلطات العسكرية الإسرائيلية التي صبت اهتمامها على إنتاجه وإعادة صياغته، بما يخدم الرواية الإسرائيلية.
في تعليقها الصوتي المرافق لعرض مقاطع مصورة من الوثائق الفلسطينية، تقول سيلع: "وجدت في الوثائق الإسرائيلية صوراً تعتزم وصف الكينونة الصهيونية، لكن ودون انتباه تخترقها الكينونة الفلسطينية أيضاً". الأرشيف الذي كشفت سيلع عنه يشير إلى القوة والقمع السلطوي الذي مورس عليه، والذي تعمد إلى إخفائه لنحو سبعة عقود.
تشير سيلع في بحثها الصادر عام 2018 عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، بعنوان "لمعاينة الجمهور: الفلسطينيّون في الأرشيفات العسكريّة الإسرائيليّة" إلى أنه "على مر الأعوام تراكمت محاولات لتحدي الممارسات الاستعمارية المتعلقة بعمليات الأرشفة، وذلك بهدف تشييد نموذج قُوامه التفسير المابعد استعماري.

الأرشيف الاستعماري

بالرغم من أنّ هذا النموذج ينطلق من داخل الأرشيف الاستعماري، فإنه يُنتج معرفة بديلة. فهذا نموذج يقرأ ضمن طبقات كثيرة منها بادية وأخرى مستترة، ويُغيّر المعرفة عن الماضي، ويوفّر أدوات جديدة لمواجهة الراهن".
خوض سيلع في قضية الأرشيف الصهيوني، ينطلق من توجهها المناهض للاستعمار، فهي تحاول إعادة الأرشيف الفلسطيني إلى سياقه الأصلي، بعيداً عن التحكم في تضمينه بالرواية التي تنتجها المؤسسات العسكرية التابعة لدولة الاحتلال. وفي معرض حديثها عن تعامل الغرب مع أرشيف العالم المستعمَر، تسند عبارة للباحث الهندي إعجاز أحمد "الأرشيفات لا تفحص وفق معايير الأصلانيين، بل تقاس وتصنف وفق معايير العالم الغربي، فأولاً تعالج في الأرشيفات الغربية وفق تكنيكات الإخراس والتلفيق والتمثيل الخاطئ الذي يلحق بغير الغربي"، فيهيمن الاستعمار على الأرشيف، ويعيد صياغته، وفق ما يخدم سياسته التي تسعى إلى قمع محاولات الشعوب المستعمَرة في التطرق لأرشيفها الخاص، وكما يحمل الاستعمار بذرة فنائه، تحمل إسرائيل في صلبها تاريخ قمع الفلسطينيين ومحاولة إبادتهم، هذا التاريخ الذي يتكشف بين سطور الرواية الإسرائيلية ويكشف زيفها، بل يمكن أن يكون بذرة لفنائها.
تعليق سيلع في الجزء الأول من الفيلم هو بمثابة رسالة إلى الباحثة الفلسطينية خديجة حباشنة، التي تتساءل بدورها في معرض ردها على رسالة سيلع: "هل قدرنا أن نكون معدومي الأسماء والوجوه؟". لربما هذا الأمر الذي حول مواقع التواصل الاجتماعي بعد حرب الإبادة الأخيرة على قطاع غزة إلى ألبوم رقمي ضخم، يحفظ صور الضحايا الفلسطينيين في محاولة لإبقائهم بالذاكرة الفلسطينية، فإسرائيل التي غالت في إجرامها، لم تعد تعبأ بإخفاء الصور، بل باتت تتجاهل بوحشية الصور الدموية التي وصلت إلى العالم من قطاع غزة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ولربما من دون أن تعلم فهي تدق مسماراً في نعشها.
يقول عبد الوهاب المسيري الذي قضى نحو ربع قرن في إعداد "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" إنه "كلما ازداد توحش المستعمر اقتربت نهايته". والصور التي تشير إلى الوحشية الإسرائيلية التي كان العالم شاهداً عليها منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول وحتى اللحظة، طُبعت في الذاكرة البشرية على الرغم من محاولات التضييق عليها، وتقييد وصولها إلى الرأي العام العالمي.

المعذبون في الأرض

بهذه الصور، راح الفلسطينيون ينفذون، قصداً، عبارة فرانز فانون صاحب "المعذبون في الأرض": "بما أن الآخر يتردد بالاعتراف بي، لم يبقَ سوى حل واحد، أن أعرّف بنفسي". وكأن الغزيين في نشرهم صور أشلاء القتلى والدمار والبؤس الذي لحق بهم، يعرفون العالم بأنفسهم كشعب منكوب.

الصورة
في مدينة غزة (فرانس برس)
في مدينة غزة (فرانس برس)

تقف سيلع عند صور من الأرشيف الفلسطيني تظهر صور الهدم والركام والدمار والأهالي الذين غادروا بيوتهم قسراً والمخيمات. تقول: "تلك الأماكن المقتلعة.. إنها تراجيديا". هذه التراجيديا تتكرر مرة أخرى في قطاع غزة، ولكن اليوم على مرأى العالم، من دون أن يخفى الأمر على أحد؛ فالصور بكل ما تحمله من مأساوية تدحض الشكوك في مصداقيتها.
لا يقتصر الاستعمار الاستيطاني على بسط نفوذه ضمن الحيز الجغرافي فحسب، وإنما يذهب إلى الهيمنة على الوعي والذاكرة وتحطيم البنى الثقافية والاجتماعية. وهكذا نهجت إسرائيل سياسة تفكيك الشعب الفلسطيني وعزله عن محيطه العربي، إذ كانت دولة الاحتلال، منذ نشأتها، تتطلع نحو المستقبل. جمعت المنظمات والمؤسسات اليهودية معلومات عن القرى الفلسطينية قبل النكبة، ما يسهل قيام الاحتلال. وعندما ثبتت وجودها العسكري، بدأت بخطتها الجديدة في الإبادة العرقية عبر المجازر، والإبادة الثقافية عبر إخفاء أيّة وثيقة تشير إلى وجود الفلسطينيين أصحاب الأرض. تؤكد سيلع أن إسرائيل تخاف الوثائق الفلسطينية أشد الخوف، ولكن اليوم وفي خضم حرب الإبادة على قطاع غزة، نرى إسرائيل تتحول من أسر الصور ونهبها إلى توجيه الأسلحة نحوها وتضييق الخناق على كل من يصدرها، فاليوم نحن أمام تاريخ فلسطيني صوري آخر يحاول الاحتلال التحكّم فيه، لكن وبشكل أو بآخر خرج الأمر عن سيطرته.

المساهمون