"دروس بْلاغا" و"ولادة": المرأة ومسائلها في صورتين متناقضتين

"دروس بْلاغا" و"ولادة": المرأة ومسائلها في صورتين متناقضتين

12 يوليو 2023
إيلّي سكورشيفا: أفضل ممثلة عن دورها في "دروس بْلاغا" (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

مساء السبت، 8 يوليو/تموز 2023، منحت لجنة تحكيم المسابقة الرئيسية لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي" الفيلم البلغاري "دروس بْلاغا"، لستيفان كومانداريف، "الجائزة الكبرى ـ الكرة البلورية" (25 ألف دولار أميركي). واللجنة ـ المؤلّفة من الممثلة الأميركية باتريشيا كلاركسون، والأميركي جون نين، كبير مبرمجي "مهرجان ساندانس" ومستشار "مهرجان لوكارنو"، والمخرج التشيكي أولمو أوميرزو، والممثل الأيرلندي باري وارد، والمنتجة التونسية درة بوشوشة ـ منحت إيلّي سكورشيفا جائزة أفضل ممثلة عن دورها فيه. الجائزتان مستحقّتان، فالفيلم الدرامي المأسوي الساخر والقاتم من أقوى الأفلام الدرامية العميقة والمؤثّرة للغاية في الدورة الـ57 هذه، التي بدأت في 30 يونيو/حزيران الماضي.

بإحكامٍ وإقناعٍ بالِغَين، يتناول "دروس بْلاغا" الانهيارين الاجتماعي والإنساني في المجتمع البلغاري، الذي تنهشه الرأسمالية بشراسة. وذلك في رؤية لاذعة لبلغاريا المعاصرة، تتأرجح بين المأساة والتشويق والإثارة. ورغم سيطرة الإطار الاجتماعي ـ الاقتصادي على الأحداث، يُقدّم الفيلم تجربةً عميقة ومثيرة للتأمّل، وباعثة على التساؤل، ولا تخلو من تأمّل فلسفي ـ سلوكي ـ نفسي في تصرّفات البشر، خاصة مع الضغط والتوتر والخوف، والحاجة الملحّة إلى المال، وفقدان الاتجاه.

أداء إيلّي سكورشيفا (بْلاغا) مُقنع ومحترف وصادق. تمثّل، بقوة وصرامة وقسوة، دور مدرّسة لغة وآداب سبعينية متقاعدة ووحيدة، بعد وفاة زوجها ضابط الشرطة قبل وقت. منذ البداية، تجهد في دفع ثمن قطعة أرض تدفن فيها زوجها، قبل أربعينيّته، لترتاح روحه. لكنّ الدفن باحترام خيالٌ في بلدٍ يستحيل العيش فيه بكرامة، لا الدفن بعد الموت فقط. فالسمسار عديم الضمير يماطلها، ويزيد من ثمن المدفن إلى حدّ لا تستطيع تحمّله.

بين حيرة واضطراب وعدم امتلاك المال اللازم، تُخدَع بْلاغا من محتالين عبر الهاتف، يسلبونها مدّخراتها. يتظاهر المجرمون أنّهم رجال شرطة، ويخبرونها أنّها في خطر، وأنّ مجرمين يريدون سرقة شقّتها. يقنعونها برمي أغراضها الثمينة من الشرفة: مالٌ مخصّص لدفع ثمن المدفن، وخاتم، وأشياء بسيطة وثمينة تملكها. يذاع الخبر بين الجميع. في كل مكان تذهب إليه، يُشعرها رفاقها بأنّها ضيئلة وساذجة، وليست حصيفة كالشائع عنها. يتضاعف إذلالها بسبب عناوين الصحف، وزملائها في الجامعة، وابنها. الجميع ينعتونها بالغباء، بسبب عملية الاحتيال هذه.

لا تهتمّ بالأمر، وتحاول، بشتّى الوسائل، العثور على عمل، وتدبير المال برهن أغراضها وشقّتها، والحصول على قرضٍ مصرفيّ. لها راتبٌ تقاعدي، لكنّه لا يكفي. تكسب قليلاً من دروس خصوصية للاجئة أرمنية تُدعى يانا (روزاليا أبغاريان)، فرّت من الحرب، وتحاول بناء مستقبل مستقرّ لها في الاتحاد الأوروبي، وتجهد في اجتياز امتحانات نيل الجنسية. تشكّ بْلاغا في أنّ بلغاريا يُمكن أنْ تكون وجهة مرغوبة لأيّ شخص، وتعتبرها غارقة في حربٍ أهلية حياتية من نوع خاص.

رغم مهاراتها، يستحيل عليها الحصول على عمل، نظراً إلى سنّها. السمسار يواصل رفع ثمن المدفن، ونجلها، الذي تتواصل معه عبر الإنترنت، لا يُحدّثها بلطفٍ، ولا يمكنه مساعدتها. الوقت ينفد، خاصة مع عدم وجود ضمانات للحصول على قرضٍ مصرفيّ، فتلجأ إلى تدابير محفوفة بالمخاطر لكسب المال بسرعة. مُجدّداً، يُمعن القدر في التنكيل بها، إذْ تتعقّد الأمور، وتصير أكثر مأسوية. وبدلاً من بلوغ حَلّ، تتعمّق مشكلتها وتتعقّد، وتغرق في مزيدٍ من الخزي والإذلال.

 

 

بعد تصليحها السيارة القديمة لزوجها، لاستخدامها في أي عمل يُكسبها بعض المال، تجد نفسها أداة إيصال مال منهوب من ضحايا، وقعوا في الفخّ نفسه مثلها، صنعه نصّابون مجهولون. تكتشف الأمر، لكنّ ضغوطاً قوية تُجبرها على تجاهل الحقيقة، والرضى بما آل إليه حالها، لتدبير المبلغ المراد. لكنْ، هل سيرحمها القدر، أم ستزداد الأمور كارثية؟

إلى ذلك، تألّفت لجنة تحكيم مسابقة "بروكسيما" من المخرج التشيكي سيمون سافرانك، والناقدة السينمائية الهولندية دانا لينسن، والمنتجة والموزّعة الليتوانية ماريا رازغوتو، ومسؤولة الدعاية والباحثة النمساوية باربرا فرم، والمنتج والموزّع الصيني مينغ شَايْ. منحت اللجنة الجائزة الكبرى (15 ألف دولار) لـ"ولادة" للكورية الجنوبية يو جي ـ يونغ، رغم أنّه لم يكن من أجمل أفلام المسابقة.

جاي (هان هاي ـ إن) روائية شابّة واعدة، نشرت أول رواية لها، عرفت نجاحاً غير متوقّع. صديقها وحبيبها غيونو (هان ـ غو لي) يُدرّس اللغة الإنكليزية في مدرسة لغات خاصة. مخلص ومجتهد في وظيفته. كل واحد منهما يحبّ الآخر بشدّة. علاقتهما عميقة ومستقرّة، وكلّ واحد يدعم الآخر، خاصة غيونو. إلاّ أنّهما يفاجآن، ذات يوم، بحَملٍ غير مُخطّط له، يقلب حياتهما. فجاي لا ترغب في إنجاب أطفال وتكوين أسرة ورعايتها، فهذا كلّه يُعرّض حياتها المهنية للخطر، ويحول دون كتابة روايتها الجديدة. تُذهَل إزاء الرغبة الشديدة لغيونو في الطفل، وإصراره على عدم الإجهاض، وتعهّده برعاية المولود، وتوفير الراحة لها لممارسة عملها كالمعتاد.

حبكة كهذه، قُدِّمت وعولجت سينمائياً مرّات عدّة. لا يبتعد "ولادة" عن المعتاد، خاصة في تصوير حياة زوجين، يصلان إلى مفترق طرق في حياتهما معاً، ومفاهيم الأمومة والأبوة، وحقّ المرأة في جسدها، ومعنى الأسرة، والتضحية والأنانية، وغيرها. اللافت فيه إصرار الثنائي على عدم انفصال أحدهما عن الآخر، رغم الصعاب وتضارب وجهات النظر. كذلك، أظهرت المخرجة يو جاي ـ يونغ مدى أنانية جاي، ونظرتها إلى مستقبلها الأدبي فقط، وعدم اهتمامها بعمل زوجها، وما يُلاقيه من صعاب تدفعه، في النهاية، إلى ارتكاب جريمة وهو مخمور.

قبل النهاية، تتحرّك الأحداث، وتتكشّف خيوط ونوايا كثيرة، بعد ملل ورتابة وإيقاع بطيء. يحدث أنْ تلد جاي، ويموت الجنين فوراً، ما يثير أسئلة عن القاتل ـ الجاني الحقيقي، ومن يستحق أنْ يُسجن؛ من اقترف جريمة مع سبق الإصرار، وتحت ضغط الابتزاز والاستغلال والخداع وأخذ الحقوق؟ الأم الرافضة لجنينها، والمُسرفة في الخمر والتدخين، وتدمير ذاتها وصحتها، ما أفضى إلى وفاة الجنين؟ المثير أنّ جاي تعود إلى حياتها العادية لاحقاً، وتنشر روايتها، وتشتهر أكثر، بينما يقبع غيونو في السجن، ما يُعمّق الأسئلة المطروحة.

المساهمون