طارق صالح (1/ 2): "التماهي ضروري لتخيّل شخصيات بأبعاد مركّبة"

17 فبراير 2023
طارق صالح: أنا مهووس بالسينما (غرِث كاترْمُل/Getty)
+ الخط -

 

بعد انطلاقه من حادثة اغتيال سوزان تميم، ليحيك ـ بجمالية الـ"فيلم نوار" ـ حبكة ثريلر مشدود الأوتار، وجذّاب بسوداويته، في فيلمه الروائي الأول "حادثة النيل هيلتون" (2017)، استعان المخرج السويدي المصري الأصل طارق صالح، لكتابة "ولد من الجنّة"، الفائز بجائزة "أفضل سيناريو" في المسابقة الرسمية للدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي، بمفاتيح تمزج التجسّس بالتعلّم، ليروي قصة متعدّدة الأدراج والانقلابات الدرامية، تدور في الأزهر، مستوحياً فكرتها من رائعة أمبرتو إيكو "اسم الوردة" (1980).

بطل قصة صالح يُدعى آدم (توفيق برهوم)، شاب قروي يلتحق بالأزهر للدراسة، فيجد نفسه وسط دوّامة دسائس، وحرب دنيئة جداً بين أطرافٍ، تجسّد السلطتين الأمنية والسياسية، الساعيتين إلى بسط نفوذهما على المعلَمَة الدينية، يمثّلهما الضابط إبراهيم (أداء كبير لفارس فارس)، وقوى ظلامية، تحاول جرّها إلى هاوية التطرّف.

كلّ ذلك في نصّ يمتح من الازدواجية والتأرجح، المُتيحَين لتعدّد القراءات. تُعدّ شخصية الشيخ نجم (مكرم خوري)، المؤثّرة برماديتها، مثلاً عن أبرز نجاحاته، ويُطرّز على منوال عناصر من الثقافة الشعبية المعاصرة (مسابقات اختيار أفضل الأصوات، استعراض المناظرات الانتخابية، إلخ.) مشاهد عظيمة تقول، من داخل ميكروكوسم الأزهر، مصير المواهب المتفرّدة في المجتمعات الوصولية، وتتمثّل ببلاغة الصورة بعض ميكانيزمات طبخ نتائج الانتخابات، ذات نسب النجاح التسعينية.

فيلمٌ كبير، يخرج منه المُشاهد بأسئلةٍ عميقة عن الدّاعي من التدين، حين تفرغه مطامع الهيمنة من كلّ روحانية، وما يتبقى من معنى للمسؤولية السياسية، حين تتجرّد من كلّ وازع إنساني، وكيف أنّ التطرف الديني والاستبداد السياسي وجهان لعملة واحدة.

حقائق لا يفتأ طارق صالح يؤكّد أهمية قولها، رغم ما كلّفه ذلك من سوء فهم، أضحى على إثره ممنوعاً من التصوير في بلده الأصلي، أو حتى زيارته، مستشهداً في ذلك بمثال طه حسين، في هذا الحوار الذي أجرته "العربي الجديد" معه في مراكش، حيث أوضح تصوّره لدور المخرج كاتب السيناريو، وتفرّد نظرته إلى الأمور، كاشفاً عن سرّ قدرته على إعادة خلق الفضاء السينمائي، لتجاوز قيود المنع، بالاعتماد على سحر السينما، قبل أنْ يقتسم جانباً من إحباطاته وتفسيره لدواعي افتتان المجتمعات العربية بنظرية المؤامرة.

شكّل عرض الفيلم قمةً شاهقةً في فئة العروض الاحتفالية "غالا"، في الدورة 19 (11 ـ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش"، بفضل مشاعر التوتّر الحابس للأنفاس، والطرح المتسامي بتساؤلاتٍ، حارقة وغير مهادنة، عن ظاهرة التديّن المنافق، ومأزق امتزاج الدين بالسياسة في المجتمعات العربية.

 

(*) تحضر مؤسّسة الشرطة كنقطة مشتركة بين فيلميك الطويلين. لماذا تختار أنْ تدور قصصك حولها؟

أتمنّى لو أنّ لدي إجابة حاسمة عن ذلك. لكنّي، حقيقةً، مهووس بالسينما. لذا، أنطلق من زاوية النوع، من دون التفكير في الموضوع. الفيلم السوداوي (نوار) جوهرة التاج للأنواع الفيلمية. إنّه نوع الفيلم الوجودي بامتياز، لأنّ العدو فيه يكون دائماً الشخص المُنعكسة صورته في المرآة. كنتُ أفكّر في ذلك، عندما قرأتُ عن قضية محاكمة طلعت مصطفى، الذي أمر بقتل سوزان تميم، وتابعتها باهتمام، فقلت في نفسي: "هذا فيلم سوداوي عظيم". بدأتُ أتخيّل: إذا أردتُ صنع "فيلم نوار"، سيكون عن ضابط شرطة مصري فاسد، يتولّى هذه القضية. شرعتُ في كتابة السيناريو.

الشيء نفسه تقريباً حصل مع "ولد من الجنّة". عندما قرأتُ "اسم الوردة" لأمبرتو إيكو، اعتقدتُ بإمكانية أنْ أستوحي من هذه الرواية الرائعة حبكة إثارة غامضة، تقع في مؤسّسة دينية، وبدأتُ كتابة القصة.

لذا، لا أعتبر نفسي صانع أفلام سياسياً، أو ناشطاً. لكنْ، هناك دائماً "لكنْ"، أنت الصحافي، وأنا أيضاً، القادم من خلفية الفيلم الوثائقي، نعلم أنّ هناك سوء فهم كبيراً، يعتقد الناس بموجبه أنّ عملك كامنٌ في نقل الحقيقة. هذا سوء فهم. يطلب منك رئيس التحرير، دائماً، مقالة ("ستوري" في التعبير الإنكليزي). ما المقالة؟ إنها تخييل. يطلبون منك ترتيب الحقيقة في مقالة، والمقالة ضربٌ من التخييل في العمق. ما أفعله، اليوم، أعني عندما تحوّلت إلى الجانب الآخر، أنّي أكتب قصصاً، موجودة في الواقع، لكنْ يجب أنْ أجد الحقيقة من داخلها.

هكذا بدأتُ البحث عن الحقيقة. بمجرّد عثوري عليها في القصة، يُصبح الأمر سياسياً، لأنّ أشخاصاً في السلطة لا يريدون قول الحقيقة، ويعتقدون أنّك إذا قلتَ الحقيقة، فأنتَ تدلي بموقف سياسي. هذا ليس قصدي. أحاول، بالأحرى، أنْ أفهم من هم في السلطة. ماهية شعور أنْ أكون ضابط أمن دولة، وأجد نفسي مُجبراً على التعامل مع أوامر مثل "الرئيس يريد فلاناً": كيف أتصرّف في هذه الحالة؟

بطريقةٍ ما، أنا صانع أفلامٍ سياسي صدفةً. كنتُ أفضّل تحقيق أفلام كوميدية رومانسية، وأظلّ قادراً على الذهاب إلى مصر مع بناتي.

 

 

(*) حقاً؟

نعم. بصراحة، لا أريد الإدلاء بمواقف سياسية. لا أشعر بأنّي مؤهّل لذلك، بطريقة ما. من بوسعه القول ما الأفضل لمصر؟ إنّها دولة ضخمة، ومُحاطة بأناس مجانين، وهناك أناس مجانين فيها أيضاً. كيف تتحكّم في بلدٍ ضخم، حيث يُمكن أنْ تؤدّي حركة خاطئة واحدة إلى كارثة؟ لذا، إذا صنعتُ، يوماً ما، فيلماً عن الرئيس، لا قَدّر الله، فأنا مُجبر على التماهي معه، حتى لو كنتُ أعتقد أنّه شخصية سيئة. صفتي كمخرج تمنحني امتياز التماهي، حتى مع الأشخاص السيّئين.

بوتين مثلاً: الطريقة التي أنظر إليه بها كمخرج تختلف عن نظرة المواطن. المواطن داخلي، مستاء منه طبعاً: "غزا أوكرانيا، وقتل أبرياء. إنّه أحمق ووغد". المخرج، أو الكاتب، يفكرّان: "حسناً. لنتخيّل أنّي فلاديمير بوتين. نحن وسط أزمة كوفيد، أشعر بالعزلة. يهمس أحدهم في أذني: "أوكرانيا على وشك الانضمام إلى الـ"ناتو"، وسيكونون على حدودنا قريباً. شعبية رئيسهم متدنّية". شخص آخر يزوّدني بمعلومات خاطئة، ويقول إنّ لديّ جيشاً قوياً. أقوم بالاجتياح، فأكتشف أنّ في حوزتي 20 دبابة فقط بدلاً من 100، وأنّ الأوكرانيين يحبّون رئيسهم: "أوه، لا! أنا عالق في الوحل. الأميركيون يسخرون منّي، والصينيون يسألون "ماذا تفعل بحق الجحيم؟". صحّتي ليست على ما يرام. أشعرُ بالتعب، وأريد أنْ أتقاعد، لكنّي قطعت الصلة مع الجميع، ولا أعرف إلى أين أذهب. عشيقتي، التي تبلغ 30 عاماً، تنظر إلي بتقزّز، وأشعر بأنّي أصبحت عجوزاً".

مسار التماهي هذا ضروري، لتخيّل شخصيات بأبعاد مركّبة.

 

(*) هذا ما فعلتَه مع شخصية الشيخ نجم في "ولد من الجنة". نظرتَ إليه كإنسان لا كشيطان. هذا يمثّل الازدواجية والتأرجح الثاوي في كتاباتك.

نعم. ربما لأنّ الشيخ نجم مستوحى من شخصياتِ أناس حقيقيين. أكثرها بداهة أحمد فؤاد نجم. التقيته مرات عدّة. بنظري، إنّه أحد أعظم شعراء مصر. حدث شيءٌ طريف للغاية، في أول لقاء لي به. كانت ابنته تبلغ 7 أعوام حينها. كنّا نتحدّث في منزله، فطلب منها أنْ تحضر له السجائر. أجابته: "لا"، فصرخ فيها: "لا؟ أقول لك أنْ أحضري لي السجائر، الآن". أجابته: "تبّاً لك"، وإذا به يلتفت نحوي، ويقول بابتسامته العريضة:" أنا من علّمها هذا" (يضحك).

الشخص الآخر هو طه حسين، الذي كان ضريراً ودرّس في الأزهر، لكنّه دافع لاحقاً عن فكرة إغلاقه. كان من فئة أعلام مصر الذين يحرصون على قول الحقيقة، من دون أنْ يهتمّوا بالعواقب. لذلك، اتُّهم ظلماً بالإساءة إلى الإسلام، عندما طرح تساؤلات عن الشعر الجاهلي، رغم أنّ أفكاره مثيرة للاهتمام، ومُصيبة في خلاصاتها، بالقول إنّ القرآن ينبغي ألّا يُعتَبر وثيقة تاريخية. إذا كنت مؤمناً، فالقرآن تعبيرٌ عن فكرة أنّ "الله يسعى إلى أنْ يُعلّمنا شيئاً"، وعلينا كبشر أنْ نجهد لفهم العالم، ودرس الجغرافيا والتاريخ، وكلّ هذه الأشياء. هذه مهمّتنا. القرآن يحاول فقط تحديد الاتجاه العام، وبعض القواعد لكيفية فعل ذلك.

على أيّ حال، أعلم أنّي أسير في حقل ألغام، عندما أخوض في هذه الأشياء. لكنْ، بالنسبة إليّ، هذه شخصيات مصرية عظيمة. طه حسين هو من قال إنّ كلّ طفل مصري ينبغي أنْ يتلقّى تعليماً، فتاةً أو صبياً، وفتح بهذه الطريقة أبواب مصر على المستقبل. يجب على من يهاجمونه أنْ يُطلعونا على سِيَرهم الذاتية، وعلى ما أنجزوه كأشخاص، أو أنْ يصمتوا.

المساهمون