عمر خيرت... ليلة القبض على نغمة

21 مايو 2023
تتسم موسيقاه بمحلية ملحني ما بعد عبد الوهاب (عمرو مراغي / فرانس برس)
+ الخط -

بينما يستعد محبو المؤلف الموسيقي وعازف البيانو المصري عمر خيرت لحفله المنتظر مساء الثالث من يونيو/حزيران المقبل بجوار أهرامات الجيزة، أُعلن في أبو ظبي عن اختيار الرجل ليكون شخصية العام الثقافية من قبل مجلس أمناء جائزة الشيخ زايد للكتاب.

وجاء في قرار الهيئة العلمية للجائزة أن اختيار خيرت يمثل "تقديراً لجهوده المتميزة وأعماله الموسيقية اللافتة، التي أحدثت نقلة في تقديم الأعمال الموسيقية ببصمة خاصة وواضحة، تجلت في العديد من المقدمات الموسيقية الخاصة بالأفلام والأعمال الدرامية، وتميزت بشخصيتها وبجُملها الموسيقية التي تتسم بالعمق والثراء والتدفق".

خبر الجائزة جدد جدلاً قديماً حول القيمة الفنية لموسيقى خيرت، ومدى استحقاق منتَجه الفني لهذه الجماهيرية الكبيرة، مقارنة بزملاء له من المؤلفين الموسيقيين، أو الذين جمعوا بين التأليف والعزف.

تتميز محافل عمر خيرت بحضور جماهيري كبير، لم تعتده الحياة الفنية المصرية والعربية تجاه الموسيقى المحضة، أي الموسيقى الآلية، الخالية خلواً تاما من الغناء. المزاج الجماهيري السائد يميل دوماً إلى الصوت البشري، ويقدم المطربين على الملحنين، ثم يقدم الملحنين على المؤلفين الموسيقيين. هذه المعطيات تجعل من عمر خيرت نموذجاً جديراً بالبحث والنظر، ومحاولة فهم الأسباب الموضوعية لاتساع شعبيته، والازدحام الجماهيري في حفلاته.

أنشأ خيرت فرقته الأولى مبكراً، في يوليو/تموز 1967، أي بعد نحو شهر من النكسة، ما يعني أنه مارس العزف العلني للجماهير منذ أكثر من 55 عاماً. ومر منذ أواخر الستينيات، وطوال عقد السبعينيات، بتجارب مزجت بين تكوينه الفني الكلاسيكي الغربي، وبين ثورة على تلك الكلاسيكية لصالح أنماط رآها أكثر تعبيراً عن جيله حينها. لكن من المؤكد أن اتساع شهرته كان عبر الدراما، من خلال الموسيقى التصويرية وشارات المسلسلات، وإنتاجه من هذا اللون هو ما يغلب على فقرات حفلاته الموسيقية، فهو يقدم للجمهور موسيقى مألوفة، يشعر المستمع معها بالأنس والأجواء الأسرية أمام التلفزيون.

بدوره، يرى الناقد الفني عبد الرحمن الطويل، أن خيرت تعمد اختيار مناطق موسيقية شعبوية، بعيداً عن اللون الكلاسيكي النخبوي، وأن البعد الجماهيري واتساع دائرة المستمعين كان حاضراً دوماً في تفكيره وإنتاجه. يميل الطويل إلى أن الأعمال الدرامية قدمت لخيرت أكثر مما قدم لها، فبينما كانت الموسيقى الدرامية لزملائه، عمار الشريعي، وياسر عبد الرحمن، ومشيل المصري، تشكل غالبا إضافة مهمة ونوعية للعمل الدرامي تسهم في شهرته وبقائه واستعادته، كانت الأعمال الدرامية هي الرافعة التي حملت موسيقى خيرت إلى الجمهور الواسع.

ومنذ نحو ثلاثة أعوام، وقبل رحيله بفترة، أحدث الممثل المصري زكي فطين عبد الوهاب ضجة إعلامية، حين انتقد بصورة علنية ما يقدمه عمر خيرت متهما إياه بالانحباس في ثيمة موسيقى فيلم "ليلة القبض على فاطمة"، وبأن إنتاجه "تكرار ثم تكرار ما بعده تكرار" بنص تغريدته الشهيرة. لكن العازف والأكاديمي طارق عبد الله يذهب إلى منطقة أبعد من منطقة زكي فطين، فيرى أن خيرت لم يبذل أي جهد لتطوير نفسه، بل هو من الأصل لا يرغب في هذا التطوير، فموسيقاه يغلب عليها الضعف البنيوي والركاكة.

وفي تقدير عبد الله، فإن الجانب الأكبر من شهرة خيرت يرجع إلى أسباب غير فنية، في مقدمتها أسرته وما لها من تاريخ موسيقي، لا سيما "العم" أبو بكر خيرت، المؤلف الموسيقي الشهير، وأول عميد للمعهد العالي للموسيقى (الكونسرفتوار) عند إنشائه عام 1959، وكذلك علاقاته بمؤسسات ثقافية وفنية تهيمن عليها "شلل" تتوارث احتقار الموسيقى الشرقية وعداوتها، وفق تعبيره.

وفي محاولة مهمة لفهم الجماهيرية الواسعة التي يحظى بها عمر خيرت، يرصد الباحث والأكاديمي كريم الصياد سمة أساسية تهيمن على إنتاج الرجل، تتمثل في أن موسيقاه تخاطب الحواس، سواء البسيط منها كالسمع، أو المركب كالحركة، فالاعتماد الكبير على صوت الآلة الواحدة (صولو) يخاطب السمع، وهيمنة الإيقاع تخاطب الحركة، ما يعني أن موسيقى خيرت تخاطب الجسد، مع الإقرار بأن التجاوب الجماهيري مع إنتاج خيرت في محافله حطم التصور الشائع عن افتقاد العرب لـ"الموسيقى الخالصة".

يعتبر الصياد أن فيلم "الرؤيا" (1983)، يمثل مرحلة مرت خلالها موسيقى خيرت بتحول شبه جوهري، فبعد أن كانت  راقصة، خفيفة، ذات حضور إيقاعي واضح، أخذت أبعاداً أعمق فرضها التعبير الدرامي، فاكتسبت طابعاً حالماً شاعرياً، من دون إغفال عنصر الحركة. لا ينفي الصياد تمتع خيرت ببنية مستقرة في أعماله، لكنه يرى أن هذه البنية تبدو أبسط مما نجده لدى عمار الشريعي.

ومن الواضح أن أكثر المهتمين برصد المشهد الموسيقي المعاصر، سواء كانوا نقاداً أو باحثين أو أكاديميين، يكادون يتفقون على أن موسيقى عمر خيرت تتسم دائما بالخلو من التعقيد، وتبتعد عن التركيبية التي يمكن أن تشكل حائلاً بينها وبين الجمهور، فهي موسيقى شعبوية مباشرة، لا تستلزم إنصاتاً مجهداً، ولا تأملاً عميقاً، ولا ثقافة فنية كبيرة.

هذا اللون من التأليف لا يملأ رأس نخب المستمعين، سواء منهم المهتمون بالموسيقى الشرقية، أو متذوقو الموسيقى الغربية الكلاسيكية، لكن بقدر ما يكون هذا النمط التأليفي والتوزيعي طارداً لهذه النخب، بقدر ما يكون جاذباً لشرائح جماهيرية أوسع، لا سيما من ذلك الصنف الذي تتسلل إليه مشاعر زائفة بالرقي والتحضر كلما حضر حفلاً فنياً في دار الأوبرا أو ساقية الصاوي، بغض النظر عن الوزن الفني لما يُقدم له في هذه المحافل.

ويرى الناقد الموسيقي فادي العبدالله، أن عمر خيرت يعبر عن اتجاه حاول تقريب فكرة الموسيقى الأوركسترالية من الجمهور المصري والعربي عموماً، فخلال القرن العشرين كان لدينا خطان متقاطعان: الخط الأول، بدأت ملامحه مع محمد القصبجي ثم صارت أكثر وضوحاً مع عبد الوهاب لأنه استعان بموزعين محترفين على مستوى عال، بهدف تنفيذ الفكرة المتمثلة بتوزيع موسيقى محلية على أدوات أوركسترالية، مع ما يستتبعه ذلك بالضرورة من تحوير للموسيقى المحلية لتوسيع إمكان توزيعها الأوركسترالي، ويتضح هذا مثلاً في اختيار المقامات أو تركيب الجملة، أو التضحية بأبعاد موسيقية شرقية لا تؤديها الآلات الغربية. والخط الثاني كان مع أمثال أبو بكر خيرت وعبد الحليم نويرة ورفعت جرانة وسواهم ممن أسمتهم المؤرخة الموسيقية، سمحة الخولي، بتيار "الموسيقى القومية".

وفي تقدير العبدالله، أن الهم الأكبر لرموز هذا الخط تمثل في فكرة تطعيم الموسيقى الأوركسترالية بعناصر محلية، مثل إدخال جمل من موسيقات تراثية أو شعبية، أو توظيف آلات مثل العود والناي، مع ما يستتبعه ذلك من تبسيط للغة الموسيقى الأوركسترالية وقدرتها على "بناء" الموسيقى، لصالح تكرار موتيفات محلية أو أشباه لها، وتمريرها إلى آذان محلية غير معتادة على قواعد الموسيقى الأوركسترالية التي درسها هؤلاء في الخارج.

ويبدو أن إدراك هذا السياق التاريخي مهم جداً لفهم موقع عمر خيرت في المشهد الموسيقي الحاضر، إذ هو -برأي العبدالله- يمثل تقاطعاً لهذين الخطين، من حيث كونه يؤلف جملاً موسيقية (ولا يعتمد موتيفات موروثة أو شعبية)، لكنها جمل تتسم بمحلية ملحني ما بعد عبد الوهاب (في تقسيم الجملة وتكرار خلاياها الإيقاعية واختيار مقامات يغلب عليها غياب ما يسمى تجاوزاً بأرباع الصوت)، ومن حيث كونه يبسط الموسيقى الأوركسترالية في توزيعه لهذه الجمل. وربما كان ذلك أول مصادر شعبيته.

وأما المصدر الثاني لتلك الشعبية التي سيحظى بها خيرت، فهو مناسبة الاستماع إلى موسيقاه، إذ هي في أكثر الأحيان موسيقى تصويرية لأفلام ومسلسلات، وهذا يمنحها بالضرورة جمهوراً واسعاً، ولا سيما حينما كانت قنوات العرض قليلة وكان الجمهور متسمراً أمام قنوات تلفزيونية تعد على أصابع اليد الواحدة.

يشير العبدالله إلى أن مرحلة شهرة عمر خيرت تزامنت مع مرحلة شهرة عمار الشريعي وميشيل المصري، ثم ياسر عبد الرحمن وراجح داود وغيرهم، لنفس الأسباب تقريباً، على تفاوت علاقتهم بالموسيقى الشرقية وعمق دراستهم للأوركسترا. مع ضرورة الانتباه إلى أن كتابة هذه الموسيقى لمصاحبة أعمال سينمائية أو تلفزيونية، فرض عليها أيضا مواكبة إرث الموسيقى التصويرية في مصر، أي النقل عن المصادر الأوركسترالية الغربية ثم بعد ذلك الاستعانة بموزعين من أمثال فؤاد الظاهري وأندريا رايدر وعلي إسماعيل وسواهم. وهو إرث مدموغ عميقاً بالعلاقة بالموسيقى الغربية الأوركسترالية، التي يضاف إليها في مرحلة لاحقة الجاز والبلوز.

بحكم النشأة والأسرة، والمسارات التعليمية، كان عمر خيرت مؤهلاً تمام التأهيل ليكون عازفاً للموسيقى الغربية الكلاسيكية. لكنه يقر بأنه عاش حالة تمرد وثورة، أوصلته في بدايات الاحتراف إلى الدرامز، ولو لفترة قصيرة، قبل أن يعود إلى البيانو مرة أخرى، بعد أن أدرك أهمية الإيقاع في "الحالة الثورية" التي كان يعيشها. تلك الحالة التي أنتجت موسيقى مهجنة، بسيطة، مباشرة، اجتذبت جمهوراً كبيراً، تتكرر في سمعه النغمات، فينتشي، وينهشه الإيقاع، فيتحرك أو يرقص. لكنه في انتشائه وحركته، لا يغادر دائرة التكرار.

المساهمون