انتظر من يعرفون الناقد الموسيقي اللبناني فادي العبد الله طويلاً، إلى أن صدر كتابه "في إثر الغواية"، ليكون بين أيديهم ما يعتبر ثبتاً كاملاً برؤى ومواقف واقتراحات طرحها فادي العبد الله في عشرات المقالات أو الأبحاث أو المحاورات والمحاضرات خلال 25 عاما مضت.
العمل الصادر عن دار "الكتب خانة" في القاهرة، يتناول عدداً من قضايا النقد الموسيقي المهمة، مثل مفهوم "الأصالة"، أو "التراث"، أو "التجديد"، كما يتوقف مع "الأساطير" التي طبعت الكتابات الموسيقية والتأريخية طوال العقود الماضية، ويناقش سياقات ظهور النمط الغنائي المتجاوز لطرب عصر النهضة، وكيف انتصرت "الحداثة الغنائية" في القرن العشرين، كما يتناول جوانب من المشهد الغنائي والموسيقي الحديث والمعاصر.
كل ذلك عبر ستة فصول شغلت أكثر من 400 صفحة. اتسمت كتابات فادي العبد الله دوماً بقدر كبير من الجدية والتوازن، وتجنب إصدار الأحكام المطلقة والنهائية. وفي الرحلة مع هذا الكتاب، سيكتشف القارئ أنه أمام نمط من الكتابة المتسمة بمنطقية واضحة، يحرص عليها فادي العبد الله، ليس فقط في محاولاته الإجابة عن بعض أهم الإشكالات في عالم النقد الموسيقي، ولكن حتى في الأسئلة التي يطرحها، فجهد العبد الله في اكتشاف "السؤال النقدي" لا يقل بأي حال عن جهده في الإجابة، التي يقدمها دوماً باعتبارها مقترحاً للتأمل والنقاش، مع الاحتفاظ بسمت تدويني ذي طابع أدبي أخاذ، وقدرة فائقة على صياغة الأفكار بعبارة بالغة الكثافة، تفرض على القارئ أن يتمهل، وأن يتأمل.
وقف فادي العبد الله طويلاً مع المقولات الشائعة حول سيد درويش
خصص فادي العبد الله الفصل الأول من كتابه لمناقشة عدد من السرديات الشائعة حد الاستقرار في معظم الكتابات النقدية والتأريخية، مبيناً عبر أمثلة منتقاة أن مستوى أعمق من التأمل والتناول النقدي، كفيل بأن يغير هذه "المستقرات"، التي يرى أنها تنتمي إلى عالم الأساطير وليس الحقائق، ومن ذلك، اعتبار رياض السنباطي رمزاً للأصالة في مقابل تجديد يقوده القصبجي أو عبد الوهاب، يفتح النوافذ أمام رياح تغريبية.
فالعقل العربي -برأي المؤلف- اخترع أصالته، التي ركزت في ألحان السنباطي على الجانب التطريبي، وغضت الطرف عن "الروح الغربية" الكامنة في بنائه اللحني ذي الطابع الدرامي الأوركسترالي، وأيضاً في عزفه على العود المتسم بقدر كبير من الرهافة الرومانتيكية، وقلة الاهتمام بالطابع الإيقاعي الذي تميز به عزف المدرسة الطربية القديمة، التي كان القصبجي أحد أعلامها.
كما توقف فادي العبد الله -في الفصل ذاته- وقفة مطولة مع المقولات الشائعة حول سيد درويش، والتي أصبحت جزءاً من ثوابت الخطاب النقدي والتأريخي المصري، ورأى أنه جرى تحميل الشيخ سيد بحمولات أيديولوجية، مثل كونه "فاتحة التعبيرية"، و"مخلص الغناء المصري من الأثر التركي"، مع سياق سياسي وفني واجتماعي، سادت خلاله رغبة عامة في اختراع هوية موسيقية، تختلف عن الأتراك، وعن الاحتلال الإنكليزي وأوروبا بصفة عامة، وأن تكون في الوقت عينه على نفس المستوى من الرقي والتحضر.
ويرى فادي العبد الله أن هذا الموقف الأيديولوجي لم يتبلور في الأوساط المصرية إلا بعد نحو 10 أعوام أو 15 عاماً من رحيل درويش، أو على الأقل لم يتضح إلا في السنوات التي تلت مؤتمر الموسيقى العربية الشهير عام 1932، إذ جرى تحميل الشيخ سيد مسؤولية المشهد الموسيقي الذي ساد حينها، فهو في نظر أنصاره الرائد والرمز والبدء الحقيقي للهوية الموسيقية المصرية، وهو أيضاً في نظر منتقديه السبب الرئيس لتراجع طرب عصر النهضة المتقن، ثم لم تمر فترة طويلة حتى جاءت ثورة يوليو 1952، فكرس خطابها صورة سيد درويش المخلص والمجدد، والذي يغني للطبقات الشعبية وطوائف العمال والحرفيين، بعد أن كان الغناء نخبوياً في قصر الخديوي أو بيوت كبار الأثرياء.
يميل إلى أن تجربة الأخوين رحباني قد انتهت قبل رحيل عاصي
وبين تلك المواقف الحدية، يحاول العبد الله أن يفكك "الأساطير" المستقرة، بفهم حقيقة الدور الذي نهض به سيد درويش، والذي يغلب أن يكون تسهيلاً وليس تمصيراً، بمعنى أنه حرص على تقديم ألحان سهلة، لا تحتاج لأصوات قادرة، وبالطبع، فإن هذا التوجه منه حتمته النهضة الكبيرة للمسرح الغنائي، والتي انغمس فيها درويش انغماساً كاملاً، توقف بسببه عن تلحين الموشحات والأدوار.
وفي ما يخص "التعبير"، الذي يعني الربط بين الموسيقى والمعنى النصي، فمن الممكن تلمس إرهاصاته في ألحان سلامة حجازي. كما أن المفهوم نفسه ابتذل في الخطاب النقدي السائد، بتكرار مثال بالغ السطحية وهو "لاجل ما نعلا ونعلا ونعلا.. لازم نطاطي نطاطي نطاطي".
يتساءل العبد الله: وماذا عن بقية الكلام؟ أين نجد التعبير فيه بهذه الطريقة؟ ويرى أن هذه المواقف الأيديولوجية المصرة على "بطل أوحد"، تجاهلت تماماً ألحاناً مسرحية لعدد من كبار الملحنين، من أبرزهم داود حسني، كما أن هذه الأدلجة استلزمت تجاهل أمين صدقي، أحد أهم كتاب أغاني الشيخ، حتى يتركز الحديث عن الثنائي الرائد المخلص: سيد درويش وبديع خيري. كان للمناخ السائد، والنهضة المسرحية الدور الأكبر في فرض هذا النمط من الألحان.
لبنان الذي كان
خصص فادي العبد الله الفصل الثاني من كتابه للحديث عن عدد من أهم الموسيقيين والمطربين اللبنانيين، مثل عازفة القانون إيمان الحمصي، والمطرب والعازف المقتدر صليبا القطريب، ووديع الصافي، الغني عن التعريف، ونجاح سلام، التي وصفها بعنوان: "البيروتية أصلاً وفصلاً ومقاماً"، وصباح التي تغني فلا تهاب أحداً. لكن ربما كانت أهم مقالات هذا الفصل تلك التي اختص بها الموسيقي اللبناني الأشهر عاصي الرحباني، الذي قاد عملية تأسيس لهجة لبنانية في الغناء العربي، استطاعت أن تجد لها موقعاً مهماً رغم هيمنة المركزية الغنائية المصرية.
يميل العبد الله إلى أن تجربة الأخوين رحباني قد انتهت قبل رحيل عاصي، بسبب الارتباط الوثيق بصوت فيروز الذي ألهم المشروع وحمله إلى الجماهير، فلما ابتعدت فيروز انتهى المشروع، لكن المؤلف يرفض تفسير "المعجزة الرحبانية" بصوت فيروز، متسائلاً عن معنى "جمال الصوت" الذي لا يفهم كذلك إلا ضمن سياق تاريخي، تتهيأ من خلاله الأذن لاستقبال الصوت والتلذذ به. كما يشير المؤلف إلى استحالة التمييز بين حصة عاصي وحصة منصور، فعملهما المشترك كان أهم مظهر لوحدة هذا العمل العضوية، وكان كذلك دليلاً على تفرده في التاريخ العربي المعاصر.
يرصد المؤلف عدة أوجه للظلم الواقع على بليغ، ومنها وصفه أيام ظهوره بالملحن الشاب
يرى العبد الله أن الرحابنة جاؤوا متأخرين عن "الانقلابين الخطيرين" اللذين أحدثهما سيد درويش أولاً، ثم القصبجي وعبد الوهاب في الفترة ما بين 1928 إلى أواسط الثلاثينيات. وقد فتحت تلك "الثورة" المصرية أمام الموسيقيين العرب آفاق المقدمات الموسيقية البحتة، والتفاعل مع الموسيقى الأوروبية، وكان من أهم مظاهرها استخدام الفرق الكبيرة التي تحتاج إلى عملية "توزيع موسيقي عالم".
ومن دون هذه المقدمات، كان من الصعب للتجربة الرحبانية أن تلقى هذا القبول الجماهيري الكبير. ولكل هذا، اعتبر المؤلف أن أهمية الرحابنة لم تكن "افتتاحية"، وإنما تأتي أهميتهم من دورهم الكبير في تكوين الذائقة الجديدة، بإدخالهم جماليات شعرية على الأغنية لم تكن المدرسة المصرية "المحافظة" حفية بها.
يتلطف فادي العبد الله بالقارئ تلطفا واضحا، لا سيما عند مناقشة المسائل التي يخرج الخلاف فيها عن دوائر المتخصصين إلى دوائر الجمهور العام، حيث تكون الحدة والتشنج. ويشعر من يطالع الكتاب أن الرجل يضع خطة ينزع بها حالة التحفز التي تصيب بعض المتعصبين عند قراءتهم أو سماعهم أي مستوى من الانتقاد لأشخاص بعينهم من مشاهير الغناء والتلحين.
وقد تجلت هذه الخطة في الفصل الثالث من كتابه، عندما اختار له عنوانا: "في حاجتنا إلى المرح أيضاً". فالموسيقى المرحة، والغناء الخفيف، والشعبيات، والتجارب الجديدة، كل ذلك مهم، والجماهير تحتاج إليه. وتحت المساحة الواسعة التي يوفرها هذا العنوان، تكلم المؤلف عن صبري المدلل، وعمار الشريعي، والتانغو، وحازم شاهين، وحميد الشاعري، وأحمد عدوية.
ومن أهم ما جاء في هذا الفصل، حديث المؤلف الهادئ عن بليغ حمدي، الذي تجاذبت صورته نزعتان يلخصهما المؤلف قائلا: "الأولى، تراه عبقريا لا يطاول سماء عبقريته أحد، مجدداً مثريا للموسيقى المصرية، وباعثا لموسيقاها الشعبية.. والثانية، وهي الغالبة لدى المثقفين والكتاب، تراه مجرد ملحن ناجح تجاريا، صاخب الإيقاع، فقير المضمون". ويقر المؤلف أن كلا الفريقين لن يعدم الحجج والأدلة التي تؤكد موقفه. ويرى أن كلا الفريقين أوقع ظلما بينا على بليغ، يتجاوز منجزه الحقيقي، ويقفز على علاقة هذا المنجز بزمنه.
يرصد المؤلف عدة أوجه للظلم الواقع على بليغ، ومنها وصفه أيام ظهوره بـ"الملحن الشاب"، أو مقارنته بعبد الوهاب مثلا أو بفريد الأطرش، وكلاهما كان ملحنا ومطربا ونجم سينما ومسرح، أو التعامل معه باعتباره مؤلفا موسيقيا مبتكرا لموسيقى جديدة تراكبيا أو جملة أو مزجا.
ويرى المؤلف أن الرجل ظُلم، لأن كل ذلك وغيره وقع عليه من دون أن يكون قد درس الموسيقى دراسة جدية تتجاوز قراءة النوتة وأبجديات العزف التي ظل ضعيفا فيها، مع وضعه تحت وطأة أن يوصف بأنه "أمل مصر في الموسيقى"، وقد تضافرت هذه العوامل مع عوامل شخصيته وحياته؛ فأدت إلى عجزه عن التعامل مع العمل الموسيقي وفق شروط التماسك والبناء والصقل. لذلك، يرى المؤلف أن ليس من الظلم ما قاله عنه محمد عبد الوهاب، من أن "لديه ومضات من الألماس يضعها على تراكيب من صفيح".
يستعرض المؤلف بعض مظاهر الضعف في ألحان بليغ، لكنه يخلص في النهاية إلى أن بليغ شهد عدداً من التحولات في حياته، ومثلت ألحانه العاطفية والوطنية، ثم أغاني الغربة والمسلسلات، ثم لونه الشعبي، حاجة سياسية واجتماعية في وقتها، تماهت معها جماهير غفيرة، وكانت نجاحاته عاملاً مهماً في الإنتاج والتجريب. ويرى المؤلف أنه لا ينبغي إهمال هذا الجانب من صورة بليغ، متمثلا في حيوات الناس التي عاشت مع أغنياته.. كما أنه من المهم أن ندرك أنه كان مستحيلاً على بليغ ومجايليه أن يصوغوا ألحانهم وفقا للأنماط الموسيقية القديمة التي سادت منذ أواخر القرن التاسع عشر.
على غلاف الكتاب، عرفت دار النشر بالمؤلف قائلة: فادي العبد الله، من مواليد طرابلس بلبنان عام 1976، شاعر وناقد موسيقي وحقوقي، له مساهمات في مجالات الترجمة وفي الفن المعاصر، ومشاركات في بيروت والشارقة والقاهرة وأكسفورد وهافارد واستوكهولم وأمستردام ومارسيليا وروتردام وفرانكفورت، ويقيم ويعمل في هولندا.. لكن من يكمل قراءة الكتاب، ويطالع فصول "النقد ونقده"، و"الأصالة والنسيان"، و"في لحظة الطرب"، سيدرك حتما أنه أمام طراز نادر من البحث والإحاطة والتواضع، ومستوى استثنائي من النقد الموسيقي النافذ من السطح إلى العمق، وكتابة باذخة، تسير في إثر الغواية.