فيلم وثائقي عن غزة... مع كلّ تلك الصور المُفجعة

09 ديسمبر 2023
في رفح (محمد عبد/ فرانس برس)
+ الخط -

حبُّ السينما. كثرة مشاهدة الأفلام، والكتابة عنها، لا تعنيان مَيلاً إلى صنعها. لكنْ، أحياناً، يخطر هذا على البال، بسبب حدثٍ عام يقلب المفاهيم والمواقف. حدثٌ يعطي رغبة في شرحٍ وشرحٍ لما يحدث، إلى درجة تتعب معها الكلمات، وربما تُقصّر.

منذ بدء العدوان على قطاع غزّة، كانت المواقف منها سبباً مُحفّزاً على كلامٍ ونقاشٍ غير كافيين، وقادا إلى ملل من كثرة ما تداولنا من رسائل مع أصدقاء، طال فيها الحوار، ويُمكن القول إنّه من دون طائل. كانت المواقف من هذا العدوان بالذات مؤشّراً، ظهر بعضها علناً، ومن دون أدنى مواربة. مواقف تدعو إلى تأمّل جديد في "أصدقاء"، رغبةً في تسجيل آراء لم تكن لتظهر بهذا الوضوح في فيلمٍ وثائقي، يُجسّد ما انكشف وفاجأ، في الغرب خاصة، حيث أقيم.

فكرة فرضت نفسها كوسيلةٍ لفضحٍ. ولو أنّه تعبير موجع، لكنّ توثيق ما انكشف وما لم نكن نشعر به، على هذا النحو الملموس، ويُمكن القول الصادم، بدا بديهياً. رصد هذه التغيّرات ـ بل في الواقع، إنّها أكثر من ذلك، وربما تكون "تحوّلات" أدقّ في التعبير عمّا طرأ من مواقف، مواقفنا ومواقف الآخرين ـ هبطت فجأة لنستيقظ يوماً فنجد أنفسنا في خضمّها. كأنّ أرواحاً أخرى تقمّصت الأجساد نفسها.

كيف يُمكن للسينما أنْ تُبيّن تحوّلات النفس والموقف؟ قادني هذا السؤال إلى تذكّر حادثة معيّنة. 

في أيامي الفرنسية الأولى، درّستُ اللغة العربية لطلاب ثانوية فرنسية. اختاروها كلغة أجنبية ثالثة. كانوا مُهتمّين بتعلّمها، وكانوا مثابرين. حينها، كانت أخبار الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أو "انتفاضة الأقصى"، المندلعة في سبتمبر/ أيلول 2000، والمتوقّفة فعليّاً في فبراير/ شباط 2005، تملأ الشاشات والإذاعات الفرنسية. كان بعض التلاميذ يسأل أحياناً بخجل عن تفسير لما يحدث، من دون إدراك له. كان هناك تعاطف إعلامي وسياسي مع الفلسطينيين في فرنسا، لا يُقارن بما يحدث حالياً. كان قراري أنّ السينما وسيلة، تقود النقاش إلى حيث يجب، وأنّها أفضل من الخوض المباشر في متاهة الشرق الأوسط وحروبه.

كان "الجنّة الآن" (2005)، لهاني أبو أسعد يُعرض حينها. موضوعٌ حسّاس، يتطلّب التعامل معه حذراً كثيراً، ومع هذا يبقى أقلّ مما لو تمّ حالياً في فرنسا. ذهبتُ مع الطلّاب، صباحاً، لمشاهدة فيلمٍ يُثير قضية العمليات الانتحارية، عبر قصة شابين فلسطينيين. اشتغل الفيلم على إجراءات التحضير لها، ودوافع الشابَين خاصة. بغضّ النظر عمّا يُمكن لمشاهدٍ عربيّ أنْ يطرح من انتقاداتٍ له، فإنّ تأثيره (الإيجابي) بدا آنذاك واضحاً على المُشاهد الغربي. طالبٌ كان يتّسم بالهدوء والصمت، مع جهد واضح في دراسة العربية، قال لي بعد انتهاء الفيلم مباشرة، وهو متأثّر بشدّة، إنّه لم يكن يعرف كلّ هذا أو يتصوّره، عن حياة الناس هناك، والشباب ودوافعهم. قال إنّ الفيلم ترك أثراً شديداً في نفسه، وحثّه على مراجعة أمور كثيرة، والتفكير بطريقة أخرى. بعد سنين عدّة، صادفت هذا الطالب وكان يعمل في وزارة مهمّة في فرنسا، تتعلّق خاصة بالسياسة الخارجية.

مع كلّ ما يصل اليوم من أخبار وصُور مُفجعة، يبدو أنّ دور السينما يستجوب الواقع بطريقة أخرى، غير الكلمة والصورة السريعة. يأتي الفيلم من رغبة في إيجاد سرد مختلف للواقع، أعمق وأكثر تأثيراً. الواقع مُتعدّد والنظرة متفاوتة، لا سيما في الغرب. فلمَ لا، وقد أتعبتني الكلمات في تفسير الأوضاع غير الإنسانية في غزّة، أنْ أفكّر في عمل فيلمٍ وثائقيّ بهاتفي المحمول، المؤهّل تماماً لهذا؟ هنا، يُطرح السؤال: لماذا وثائقي؟ فيلمٌ روائي أنسب في هذه الحال (كما فعل "الجنّة الآن"). الروائي يُتيح ـ مع صراحةٍ أكبر وحرية أكثر ـ الدخول على نحوٍ أفضل في تفاصيل حياة، وإبداء تعابير ومواقف.

لطالما فضّلت الروائي على الوثائقي. إنّه أكثر واقعية وصدقاً. لكنْ، ربما لا يسمح الروائي بنقل آراء، وإجراء حوارات مُطوّلة ونقاشات، كتلك التي جرت حولي بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول. تفجّرت تلك المشاهد، وقضت على بعض صداقات، وقادت إلى تبادل ناري للآراء، وإلى "أخذ وردّ"، وكشفت أعماقاً كانت مُخبّأة. 

هذا يحثّ على التوثيق، والبحث عميقاً في مسألة: كيف يُمكن، أمام ما يحدث للفلسطينيين في غزّة، وأمام هذه الصُور التي تمزّق القلب وتسيل دموعاً صامتة، أنْ ينحاز إنسانٌ إلى الطرف الذي يُسبّبها؟ كيف؟

سينما ودراما
التحديثات الحية

سأسأل صديقاً، كان يسارياً ثم تحوّل، وكان يُصرّح بيهوديته كنوع من انتماء ثقافي تاريخي غير ديني، كما يفعل عربي يشعر بانتمائه إلى الإسلام كثقافةٍ تربّى عليها، وليس كدين يُمارس شعائره. سأسأل هذا الذي كان مُقرّباً، وأحاوره بصراحةٍ عن موقفه الغريب. سيكون الحوار، لطوله، مُستحيلاً في فيلم روائي. الصديق قال الكثير بصراحةٍ مفاجئة في فجاجتها، حين حاورته. فهل يقبل نقل آرائه وجهاً لوجه، أمام كاميرا صغيرة؟ تطوّر الوسائل سيسمح بالعمل في ظروفٍ مقبولة، وصنع أفلامٍ تلعب على تأثير الواقع، ليسرد كلّ طرف روايته التي يرى أنّها تاريخية، وأنّها الصحيحة. لكنْ، بعيداً عن التاريخ، لننظر في المفجع اليوم: كيف لا يراه أحد الأطراف؟ كما قالت لي صديقة، "سأضعها" في فيلمي: "لست عربية ولا إسرائيلية، لا مسلمة ولا يهودية، لكنّي إنسانة، وليس بإمكان من يتحلّى بأدنى قدر من إنسانية ألّا يرى الظلم الواقع على الفلسطينيين".

أريدها أنْ تواجه، في فيلمي، صديقنا السابق، وأنْ أتوارى خلف عدستي التي تُصوّر. سأجعل اثنَين من أصدقائي يتعاركان فكرياً، كما تعاركتُ مع أحدهما، وقرّرت التوقّف. سأختم فيلمي بسؤال "الصديق"، كما فعلت كلّ وسائل الإعلام الغربية، بمجرّد أنْ تلتقي عربياً لتحاوره، فتطرح عليه السؤال الذي بات أبدياً: "هل تُدين ما فعلته "حماس؟". سيكون سؤالي: "هل تؤيّد ما قالته غولدا مائير (رئيسة وزراء إسرائيل بين عامي 1969 و1974)، وبات قولاً مأثوراً: "لن يكون بإمكاننا أنْ نغفر للعرب أنّهم أجبرونا على قتل أطفالهم؟".

المساهمون