فيلم Beau is Afraid: حيث يمكن أن يحدث أي شيء

20 يوليو 2023
لا يتوقف بو أبداً للتساؤل عن معنى ما يحدث من حوله (A24)
+ الخط -

انتظر محبو السينما فيلم Beau is Afraid بفارغ الصبر، منذ الإعلان عن إنتاجه قبل عامين تحت عنوان Disappointment Blvd، خصوصاً أنه يحمل توقيع المخرج الأميركي، آري أستر، المعروف بأعماله المثيرة للخوف والجدل في آن. Beau is Afraid من بطولة الممثل الأميركي واكين فينيكس الذي حملت له النسخة الأخيرة من فيلم "جوكر"، في عام 2019، قدرًا متساويًا من المديح والنقد، لكنها أرست صورته "كرجل المهام الصعبة" وخاطف الجوائز، ومنها جائزتا غولدن غلوب والأوسكار عن فئة أفضل ممثل.
صرح مخرج الفيلم، في مقابلة له، بأنه حتى الممثل الذي شاع عنه أداء الشخصيات المظلمة والمركبة، هوى أثناء التصوير مرة، فاقدًا وعيه بشكل تام، بسبب حدة المشاهد، وبعضها كان يتطلب اختراق ألواح الزجاج أو الجري لمسافات طويلة، فضلًا عن الشدة النفسية التي عانى منها فينيكس وبقية طاقم العمل خلال تصوير Beau is Afraid في إقليم كيبيك الكندي، وذلك جراء المحتوى العاطفي القاسي والمحفز للصدمات النفسية.
خطرت لأستر فكرة صناعة Beau is Afraid منذ أكثر من عشر سنوات، حتى أن بعض المستخدمين تداولوا مسودة كاملة للسيناريو على الإنترنت، تعود إلى عام 2014، كما أنتج المخرج فيلمًا قصيرًا عام 2011 بعنوان Beau، يشابه في كثير من تفاصيله الفيلم الجديد الذي يعد الأكثر تكلفة لشركة A24؛ وهو أمر مفهوم نظرًا إلى حجم وجودة الرسوم المتحركة التي أنجزها كل من Cristobal León & Joaquín Cociña، وامتداده على ساعات ثلاث، تفيض بأنواع ومذاهب سينمائية مختلفة، ما جعل كثيرين يصفونه بـ "أوديسة الأنواع"، بدءاً من الرعب الكوميدي إلى الرعب الجسدي والسوريالي، وصولًا إلى الكوميديا الكابوسية، إذ أوضح المخرج أنه يقدر الجدية الهائلة التي أضافها فينيكس على الدور، إلا أنه لطالما أراد لفيلمه هذا أن يثير ضحكات الجمهور. وبأسلوب لا يخلو من حس الدعابة المربك، صرح أستر في مقابلة له على قناة A24 على "يوتيوب"، بأن فيلمه يشبه "ضخ جرعات هائلة من الزولوفت في جسد طفل يبلغ العاشرة من عمره، ثم إرساله ليشتري البقالة". 


يعيش بطل الفيلم بو واسرمان (فينيكس) في حي جحيمي، أو هكذا يراه على الأقل، محاطًا بالجريمة والعنف والسلاح والمخدرات. وحين يعتزم مغادرته في رحلة قصيرة لزيارة والدته الثرية، مونا (باتي لوبوني)، في ذكرى وفاة والده، يُسرق مفتاح الشقة وحقيبة السفر من أمام باب بيته، ما يدفعه إلى تأجيل رحلته، ليمر بسلسلة غريبة من الأحداث، تتضمن اقتحام منزله وجنون سكان حيه، وصولًا إلى سماعه خبر وفاة والدته بحادثة، فيبدأ بعدها مغامرة طويلة ومليئة بالعوائق للعودة إلى منزل أمه، كي يكون حاضرًا خلال دفنها تنفيذًا لوصيتها.
يتخلل الرحلة اختطاف بو من قبل زوجين ثريين يعيشان في الضواحي، ثم هروبه منهما إلى غابة تسكنها مجموعة مسرحية جوالة من الأبناء اليتامى والمهجورين، يفر منها على إثر المجزرة التي يرتكبها جندي سابق يدعى جيفز، بأمر من الزوجين المضطربين، حتى وصوله إلى منزل أمه الفخم عقب انتهاء الجنازة، حيث يلتقي بعشيقته التي ستموت في أحضانه، ويكتشف أن والدته لا تزال على قيد الحياة، لتسوقه في آخر الأمر إلى محكمة "الابن السيئ" المقامة وسط بحيرة محاطة بالجماهير، وكأنها تراجيديا تُمثل وسط مدرج إغريقي.
مع كل تلك التخبطات والحبكات الثانوية، سيكون من الصعب تلخيص قصة الفيلم بدقة أو تحديد خطه الزمني والمكاني، خاصة أن أحداثه الرئيسية تتقاطع وتتعارض مع سلسلة من الأحلام الغريبة وذكريات الماضي المؤلمة على هيئة شذرات عابرة، وخيارات محتملة للمستقبل يخوضها بو في مزيج من الدور المسرحي والشخصية الكرتونية. لا سبيل لمعرفة أي من الأحداث قد جرى فعلًا، وأي منها نتاج لمخيلة بو الذي يعاني من اضطرابات نفسية عديدة، أوضحها اضطراب القلق المزمن الذي يتميز بنوبات خوف مفاجئة ومتكررة، ترافقها أعراض بيولوجية، مثل الدوخة والهذيان وصعوبة التنفس.
تلك المعطيات، إضافة إلى هول ما نشاهده على طول الفيلم، كالوحش القضيبي في العلية، والذي تدعي مونا أنه والد بو، يجعل رواة الفيلم غير موثوقين إطلاقًا، يختلط في حديثهم وذكرياتهم المتخيل والمضخّم، إذ لا يترك أستر حدًا فاصلًا بين النظرة الموضوعية للمخرج أو الكاميرا أو بقية الشخصيات، وبين تلك الذاتية لبو وجانبه من القصة، فتتداخل الأحداث وتتدور الزوايا، ليظهر الفيلم وكأنه جولة في عقل رجل مضطرب، وطريقة نرى فيها كيف يبدو المرض العقلي والنفسي من داخل تلافيف رأسه.
لا يتوقف بو أبدًا للتساؤل عن معنى ما يحدث من حوله، حتى لا يبدو أن شيئًا يثير استغرابه في ما يواجهه وحيدًا، حاله حال غريغور سامسا بطل رواية "التحول" لفرانز كافكا، الذي يستيقظ في صبيحة أحد الأيام ليجد نفسه وقد تحول إلى صرصار كبير فوق سريره، لكنه مع ذلك لا يطرح الأسئلة. يريد بو الهرب مما يجري حوله، لا مواجهته أو حتى محاولة فهمه، ما يعزز صورته كطفل، تغالي الكاميرا في تكريسها عبر تحجيم هيأته والتقاط جسده وتحديقاته من زوايا تجعله يبدو أكثر انكماشًا على نفسه، كطفل يختبئ تحت الطاولة خوفًا من العقوبة.
سوء نشأته وعلاقته الباثولوجية مع والدته، جعلاه طفلًا أبديًا؛ ولدًا يغطي الشيب رأسه، هرِماً لكنه غير ناضج أيضًا، تبدو أمه أصغر منه في كثير من اللقطات. وحتى في معركة ترامي اللوم والمسؤوليات التي تحتل القسم الأخير من الفيلم، لا نجد إجابات واضحة عن أسئلة يخالها بعضهم بديهية؛ أيهما الابن والمحتاج للرعاية؟ وهل كان كل شيء هو خطأ مونا وحدها؟ أم أن بو مسؤول إلى جانبها عن تلك الكوارث العائلية؟

المثير للاهتمام في كل تلك الفوضى، أن شيئًا ما من الجنون المتفجر في عالم الفيلم هو حقيقي أيضًا، أو أنه يستند إلى خلفية واقعية، وإن يصعب التعرف عليها خلف كل تلك المشاهد المليئة بالقتلة والجثث المتعفنة والعناكب السامة، فالحي المسعور الذي يعيش فيه بو ليس إلا تصويرًا جامحًا لأحياء الصقيع، حيث يشحذ الفقراء سكاكينهم ليغرسوها أينما وصلت أياديهم. وقد شاءت الأقدار أن تستقر شفرة أحدهم في خاصرة بو هذه المرة، تاركة إياه مع ندبة نازفة طوال الفيلم وسؤال لا يعرف لمن يوجهه حتى: "لماذا طعنتني؟". أما الزوجان الغريبان، فهما محاكاة ساخرة لعائلات الضواحي النووية حديثة العهد في الولايات المتحدة الأميركية، وما أفرزته من مكونات اجتماعية وثقافية هشة، خصوصًا شخصية جيفز، وهو بطل الحرب السابق المشوه، وقد تحول في حد ذاته إلى سلاح خطير، تطلقه غريس وراء أي عدو محتمل.
الفيلم مرعب ومضحك في ذات الوقت، ولعل الطريقة التي يقبل بها بو الإهانة، وهدوءه الخالص إزاء المحن التي يواجهها هو، أكثر ما يفترض أن يثير الضحك. من هذه الناحية، يبدو الفيلم نسخة أكثر غرابة وجنونًا من فيلم الأخوين كوين A Serious Man، لكنه يدين بالكثير أيضًا لفيلم تشارلي كوفمان الشهير Synecdoche, New York، كما يستعير العديد من الموضوعات من الأسطورة الأشهر عن العطب العائلي أوديب، وخاصة رحلة العودة إلى المنزل التي تبتدأ بمواجهة وحش السيفينكس على مدخل المدينة، وتنتهي بالمنفى الأبدي. بالنسبة لبو، فالرحلة تبتدئ بسؤال معالجه النفسي بداية الفيلم عما إذا كان يتمنى موت أمه. ومع أنه يؤكد أنه بعيد كل البعد عن ذلك الطرح، إلا أن الفيلم يدور في فلك تلك الموضوعة المعقدة منذ انطلاقه، ويبحث في المشاعر المتناقضة الناجمة عن فقدان الوالدين، أو الشعور بالذنب الذي يتمظهر في أشكال عدة.
قد يفسر بعضهم فيلم Beau is Afraid على أنه عمل آخر يتظلل بمظلة الصحة النفسية الواسعة، فيحشو ساعاته الطويلة بمشاهد عشوائية لا يمكن تفسيرها إلا بوصفها تهيؤات لعقل مضطرب، إذ يمكن أن يحدث كل شيء. إلا أن فيلم بو يمشي خطوة إلى الأمام في تلك السردية التي ملتها السينما الحديثة، ويقدم مضمونًا ينطوي على كثير من البحث والتمحيص والمجهود الذي ينعكس على صورة الفيلم وأداءات الممثلين، وعلى الموسيقى التصويرية المستخدمة، لينتج تجربة فنية من نوع خاص، إما أن يحبها المرء أو لا يفعل.

المساهمون